جعفر عباس : مخترعات سادت ثم بادت

سودافاكس ـ كنت‭ ‬ومازلت‭ ‬أحب‭ ‬الشيخ‭ ‬الجليل‭ ‬علي‭ ‬الطنطاوي،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬لأسلوبه‭ ‬اللطيف‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬العظات‭ ‬والعبر،‭ ‬وبين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬تقليب‭ ‬أوراق‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬صور‭ ‬وخواطر‮»‬‭ ‬وأجد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬متعة‭ ‬نفسية‭ ‬شديدة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬علم‭ ‬غزير‭ ‬ويعنى‭ ‬باختيار‭ ‬مفرداته،‭ ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬خفيف‭ ‬الظل‭ ‬والروح‭ ‬كما‭ ‬يعرف‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تابع‭ ‬برامجه‭ ‬التلفزيونية‭ ‬الشيقة‭ ‬وأحاديث‭ ‬ذكرياته،‭ ‬وأحاديث‭ ‬الطنطاوي‭ ‬المذاعة‭ ‬عبر‭ ‬التلفزيون‭ ‬أو‭ ‬المتداولة‭ ‬عبر‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬أصدرها‭ ‬خير‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬كلام‭ ‬يفتقر‭ ‬الى‭ ‬عنصر‭ ‬الامتاع‭ ‬لا‭ ‬يشد‭ ‬الناس،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الطنطاوي‭ ‬يمارس‭ ‬الوعظ‭ ‬الديني‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬الناس‭ ‬الانطباع‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬يعظهم‮»‬،‭ ‬فالوعظ‭ ‬‮«‬الجاف‮»‬‭ ‬ثقيل‭ ‬على‭ ‬النفس،‭ ‬ولكن‭ ‬إذا‭ ‬تخلله‭ ‬لطيف‭ ‬القول‭ ‬وطريف‭ ‬أو‭ ‬غريب‭ ‬الوقائع،‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬سهلة‭ ‬فإنه‭ ‬يشد‭ ‬الانتباه‭ ‬ويخترق‭ ‬طبلة‭ ‬الأذن‭ ‬ليستقر‭ ‬في‭ ‬الدماغ‭.‬

يحكي‭ ‬الطنطاوي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬آنف‭ ‬الذكر‭ ‬ذهوله‭ ‬عندما‭ ‬شاهد‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬المصابيح‭ ‬الكهربائية‭ ‬والترام‭ ‬والسينما‭ ‬ثم‭ ‬قلم‭ ‬الحبر‭ ‬السائل‭. ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬الحكايات‭ ‬تجد‭ ‬القبول‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬التي‭ ‬ولدت‭ ‬والدنيا‭ ‬مكهربة‭ ‬والترام‭ ‬دخل‭ ‬ذمة‭ ‬التاريخ‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬قلم‭ ‬حبر‭ ‬سائل‭ ‬أو‭ ‬متجمد‭ ‬لأن‭ ‬الكيبورد‭ ‬يتولى‭ ‬الكتابة‭ ‬بل‭ ‬يصحح‭ ‬لك‭ ‬أخطاءك،‭ ‬فقيمة‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬حقب‭ ‬زمنية‭ ‬لم‭ ‬تشهدها‭ ‬الأجيال‭ ‬الشابة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬تمثل‭ ‬جنسا‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬يستحق‭ ‬تسمية‭ ‬التاريخ‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ومعظم‭ ‬التأريخ‭ ‬الذي‭ ‬نقرأه‭ ‬وندرسه‭ ‬كتبه‭ ‬مؤرخون‭ ‬هواة،‭ ‬سجلوا‭ ‬انطباعات‭ ‬عن‭ ‬العصور‭ ‬التي‭ ‬عاشوا‭ ‬فيها‭ ‬واستنبط‭ ‬المؤرخون‭ ‬المحترفون‭ ‬منها‭ ‬حقائق‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬العصور‭.‬

في‭ ‬شهر‭ ‬يناير‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2006،‭ ‬وضعت‭ ‬شركة‭ ‬وسترن‭ ‬يونيون‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬موقعها‭ ‬على‭ ‬الإنترنت‭ ‬رسالة‭ ‬قصيرة‭ ‬تقول‭: ‬خدماتنا‭ ‬توقفت‭ ‬ونأسف‭ ‬لذلك‭!! ‬كانت‭ ‬وسترن‭ ‬يونيون‭ ‬أكبر‭ ‬شركة‭ ‬للبرق‭ (‬التلغراف‭) ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وكان‭ ‬التلغراف‭ ‬طوال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬أسرع‭ ‬خدمة‭ ‬لتوصيل‭ ‬الرسائل‭ ‬عرفتها‭ ‬البشرية،‭ ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬نحن‭ ‬أبناء‭ ‬الدول‭ ‬المتخلفة‭ ‬صناعياً‭ ‬واقتصاديا‭ ‬نسينا‭ ‬أمر‭ ‬التلغراف‭ (‬بكل‭ ‬ذكاء‭ ‬ودهاء‭ ‬ركزت‭ ‬وسترن‭ ‬يونيون‭ ‬على‭ ‬التحويلات‭ ‬المالية‭ ‬بسرعة‭ ‬البرق،‭ ‬وعاد‭ ‬عليها‭ ‬ذلك‭ ‬بأموال‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬جنتها‭ ‬من‭ ‬بيع‭ ‬خدمات‭ ‬البرقيات‭).‬

تذكرت‭ ‬أيام‭ ‬التلغرافات،‭ ‬وسرحت‭ ‬ذاكرتي‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬شيخنا‭ ‬الطنطاوي،‭ ‬وتذكرت‭ ‬كيف‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬ننتظر‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬أواسط‭ ‬السودان،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬أبي‭ ‬ليأتونا‭ ‬برسائل‭ ‬منه،‭ ‬نعم‭ ‬ففي‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬الذي‭ ‬شهد‭ ‬كل‭ ‬الطفرات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬كان‭ ‬معظم‭ ‬أبناء‭ ‬الشرق‭ ‬العربي‭ ‬يعتمدون‭ ‬على‭ (‬اليد‭) ‬في‭ ‬توصيل‭ ‬الرسائل،‭ ‬فكل‭ ‬من‭ ‬يسافر‭ ‬إلى‭ (‬البلد‭) ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬معه‭ ‬ذهاباً‭ ‬وإيابا‭ ‬عشرات‭ ‬الرسائل‭.. ‬ثم‭ ‬توسعت‭ ‬خدمات‭ ‬البريد‭.. ‬ولكن‭ ‬ها‭ ‬هي‭ ‬الآن‭ ‬تنكمش‭ ‬وهناك‭ ‬قلة‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وأنا‭ ‬منهم،‭ ‬مازالت‭ ‬تحتفظ‭ ‬بصناديق‭ ‬بريد،‭ ‬ولكن‭ ‬معظم‭ ‬ما‭ ‬يصلنا‭ ‬عبرها‭ ‬رسائل‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬رسمي‭. ‬أي‭ ‬ان‭ ‬الناس‭ ‬توقفوا‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬الرسائل‭ ‬الشخصية‭ ‬باليد‭ ‬والقلم‭ ‬وإرسالها‭ ‬عبر‭ ‬البريد،‭ ‬وجاء‭ ‬التلكس‭ ‬وصار‭ ‬عنصراً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬الشركات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬ثم‭ ‬اختفى‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعي‭. ‬وجاء‭ ‬الفاكس‭: ‬تدخل‭ ‬ورقة‭ ‬مكتوبة‭ ‬في‭ ‬جهاز‭ ‬هنا‭ ‬فتظهر‭ ‬منها‭ ‬نسخة‭ ‬طبق‭ ‬الأصل‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬مئات‭ ‬أو‭ ‬آلاف‭ ‬الكيلومترات‭.. ‬وراح‭ ‬فيها‭ ‬الفاكس‭ ‬غير‭ ‬مأسوف‭ ‬على‭ ‬شبابه،‭ ‬ثم‭ ‬انتشرت‭ ‬هواتف‭ ‬المنازل‭ ‬وجاءت‭ ‬بعدها‭ ‬الهواتف‭ ‬الجوالة‭ ‬شديدة‭ ‬الذكاء‭ ‬بخصائصها‭ ‬وتطبيقاتها‭ ‬المدهشة‭.‬

وهكذا‭ ‬صار‭ ‬التعامل‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬بـ‭(‬الرغي‭ ‬والحكي‭). ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬الكلام‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬خبر‭ ‬كان‭ ‬وصارت‭ ‬الرسائل‭ ‬القصيرة‭ ‬عبر‭ ‬الجوال‭ ‬هي‭ ‬أداة‭ ‬التواصل‭.. ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الرسائل‭ ‬مكلفة‭ ‬مادياً‭ ‬فيلجأ‭ ‬إلى‭ ‬البريد‭ ‬الالكتروني‭ ‬من‭ (‬كمبيوتر‭ ‬المكتب‭ ‬البلوشي‭).. ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬مع‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬خاصية‭ ‬مكالمات‭ ‬الفيديو‭ (‬سكايب‭ ‬وفيس‭ ‬تايم‭ ‬إلخ‭) ‬بالصوت‭ ‬والصورة‭ ‬فصار‭ ‬ممكنا‭ ‬أن‭ ‬تطمئن‭ ‬على‭ ‬والديك‭ ‬وأولادك‭ ‬وأصحابك،‭ ‬وأن‭ ‬تتأكد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬حبيبة‭ ‬فيسبوك‭ ‬فعلا‭ ‬بنت‭ ‬وحلوة‭ ‬وليست‭ ‬ولدا‭ ‬كما‭ ‬المقلب‭ ‬الذي‭ ‬شرب‭ ‬منه‭ ‬صاحبك‭ ‬فلان‭.‬

اجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬انتهاء‭ ‬عصر‭ ‬التلغراف‭ ‬والتلكس‭ ‬والفاكس‭ ‬والبريد‭ ‬التقليدي،‭ ‬أن‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬صار‭ ‬ميسورا،‭ ‬وببلاش،‭ ‬وراحت‭ ‬شركات‭ ‬الاتصالات‭ ‬ضحية‭ ‬الطفرات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬الاتصالات،‭ ‬ولن‭ ‬استبعد‭ ‬ان‭ ‬نشهد‭ ‬قريبا‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬نتواصل‭ ‬فيه‭ ‬مع‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭ ‬ومئات‭ ‬الكيلومترات‭ ‬تفصل‭ ‬بيننا‭ ‬بالمصافحة‭ ‬عبر‭ ‬البلوتوث‭ ‬مثلا‭. ‬تصافح‭ ‬عبر‭ ‬المسافات‭ ‬ولدك‭ ‬الذي‭ ‬يدرس‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬وتصيح‭: ‬أووه‭ ‬حرارتك‭ ‬مرتفعة‭ ‬روح‭ ‬للدكتور‭.‬


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.