جعفر عباس : عن مجافاة أصول العزاء
سودافاكس ـ المناسبة «الاجتماعية» التي أحرص على الدوام على المشاركة فيها بالحضور هي تقديم العزاء في المتوفين، باعتبار ان ذلك واجب وليس من باب المجاملة الاجتماعية كما هو الحال مع حفلات الزواج مثلا، وقبل أشهر قليلة قمت بواجب العزاء نحو صديق عزيز توفي شقيقه الأكبر. وكان الراحل بمثابة الأب لصديقي حيث تكفل بتربيته وتعليمه بعد وفاة والدهما. وفور سماع الخبر توجهنا إلى بيت الصديق نحن أصدقاءه المقربين وأقاربه من الدرجة الأولى. وكان الجو مفعماً بالحزن والغم. لأننا كنا ندرك مكانة الفقيد في قلب صديقنا. وطوال نحو ساعتين لم يفتح الله على معظمنا بأكثر من العبارات المتعارف عليها في مثل هذه المناسبات (عند تقديم العزاء في الموتى يرفع السودانيون الأكف في مواجهة ذوي المتوفى ويقرؤون «الفاتحة»)، ومع حلول المساء كان نحو مائتي شخص يجلسون في بيت الصديق المكلوم، ومن جميل الخصال السودانية أن أهل السودان يقفون مع بعضهم البعض في المرض والموت، ويا ويلك وظلام ليلك لو شاء حظك العاثر أن تتقاسم غرفة مستشفى مع مريض سوداني. فزواره لا يتقيدون بالمواعيد المحددة للزيارة، وفي ساعات الذروة أي في الأمسيات يستقبل المريض السوداني ما بين 77 و234 زائرا! وفي جميع المهاجر التي يعيش فيها سودانيو الشتات تجد «زولا» معينا يتولى تطوعا إبلاغ بقية أفراد الجالية بمن لزم سرير المستشفى ومن انتقل الى جوار ربه، ويحظى هؤلاء النفر بتقدير كبير.
وأعود الى صديقي المكلوم في ذلك اليوم حيث جلست في سرادق العزاء وسط تلك الحشود ساهماً بعض الوقت، ثم لم أعد أدرك أين أنا.. أعني أن الجو العام حولي جعلني أنسى أنني في بيت عزاء وأن الغرض من وجودي هو التخفيف عن صديقي. كان المعزون يأتون في مجموعات ويصافحون شقيق الفقيد في وقار ثم يجلسون صامتين دقائق معدودة ثم ينسجمون في أحاديث لا علاقة لها بالمناسبة التي جمعتنا في ذلك البيت. هنا نقاش عن أزمة المرور، وهؤلاء يناقشون قضية دارفور، وآخرون يتباحثون في انفلونزا الطيور، وشلة في ركن قصي يضحك أفرادها في منتهى السرور. كان أحدهم قد تلقى -فيما يبدو– طرفة عبر الهاتف الجوال وكان يعرضها على من حوله فيتضاحكون وكأنهم في «مقهى الشاطئ»، ولا بد حتما أن تجد شخصا يحلل آخر مباراة بين برشلونة وريال مدريد فيتعالى الجدل، وتحسب –من فرط سخونة النقاش– أن دولة الأندلس لم تسقط.
باختصار أدركت أن تقديم العزاء صار واجباً روتينياً مثل الواجبات المدرسية التي عليك أن تؤديها وأنت مرغم وكاره: يأتي الناس إلى بيت العزاء لعمل الواجب، ولا بأس في عمل الواجب، ولكن التعويل على الطريقة التي يؤدي بها ذلك الواجب. والضحك في مقام الموت والحزن والفقد ليس من قبيل «الواجب»… ربما كان المريض في المستشفى بحاجة إلى من يسري عنه بالطرف والنكات لينسيه معاناته، ولكن الشخص المكلوم ليس بحاجة إلى أناس يتضاحكون من حوله.. وحتى في المستشفى فإن للتظارف حدوداً، فليس من حسن الفطن والظرف أن تقول لشخص بترت ساقه لسبب أو لآخر: ولا يهمك السنة الجاية نشوفك في الأولمبياد.. هاهاهاهاآآآآآآ.. هناك أناس لا يعرفون معنى أن لكل مقام مقالا، ومن ثم يتصرفون وهم يقدمون العزاء بنفس الطريقة التي يتصرفون بها وهم يباركون لشخص ما زواجه.. تستطيع أن تداعب العريس بعبارة من شاكلة: ولا يهمك، كلنا لها.. ولكن رغم أن «كلنا لها» تقال في مقام تقديم العزاء فإنه إذا سبقتها «ولا يهمك»، في معرض مواساة صاحب الفقد؛ فإن ذلك يثبت أنك «ميت» القلب والحس. بل إن اعتبار صيوان العزاء مجمع أنس، وتبديد وقت يجعل البعض يصافحونك وأنت تهم بالانصراف: فرصة سعيدة.. نشوفك قريب. ماذا تقول لشخص كهذا: إلهي تشوف العمى ولا تشوفني في موقف كهذا؟ إذا كان الجلوس في حضرة الموت فرصة سعيدة فما هو مقياس التعاسة والحزن عندك.