جعفر عباس: المدرسون الأيقونات
سودافاكس ـ فور انتهاء آخر امتحان في سنتي النهائية في جامعة الخرطوم، توجهت الى وزارة التربية، وفي مكتب إدارة التعليم الثانوي وجدت الأستاذين حمزة مدثر (الآن بروفسر في جامعة الأحفاد) وعبد الفتاح أحمد عيسى، وقلت لهما إنني جلست لآخر امتحان في رحلتي الجامعية قبل نحو ساعة، وأنني اعتقد انني “نجحت سلفا” حتى قبل صدور النتائج، وانني راغب في العمل في التدريس، وأريد معرفة طريقة وشروط التقديم، فسألاني عن تخصصي فقلت لهم الإنجليزية، فقالا لي: اعتبر نفسك مدرسا منذ الآن واذهب الى بيتكم وانتظر كشف تنقلات المدرسين في الإذاعة لتعرف أي مدرسة ستعمل فيها، وكان معنى ذلك انني سأتقاضى راتب 3 شهور أونطة الى حين تحديد المدرسة التي سأعمل بها
تعرضت لكثير من التهكم من الأقارب والمعارف عندما علموا أنني قررت العمل مدرسا، بل وتحركت الواسطات ل”إنقاذي” من التدريس وعثرت لي على وظيفة في وزارة الصناعة، ولكنني لم أتزحزح عن الرغبة في العمل في التدريس.
خلال سنواتي الأربعة الأولى في المرحلة الابتدائية كنت- بدون فخر- من أبلد التلاميذ في مدرسة بدين الأولية، ودائما من “العشرة الأواخر”، فقد أتيت الى بدين من كوستي وأنا لا اعرف اللغة النوبية، ووجدت نفسي بين مئات التلاميذ الذين لا يعرفون شيئا من اللغة العربية العامية، وبهذا كنت غريبا في المدرسة وأحاول التحدث بالنوبية وأتعرض للتهكم، وجلست لامتحان الانتقال الى المرحلة الوسطى ورسبت.
واضطررت الى إعادة السنة بضغوط وضرب من عمي محمد عثمان فقير موسوليني
ثم جاء الى المدرسة مدرس من أبناء بدين اسمه عثمان سيد احمد كنه، كان تربويا مطبوعا قادرا على تشجيع التلاميذ وغرس حب التعلم في نفوسهم دون ترويع او إرهاب، وكان يقضي ساعات العصر معنا في مراجعة الدروس ونسعد أيما سعادة بمواصلة الدراسة معه، وعند المحاولة الثانية للالتحاق بالمدرسة الوسطى نجحت ومعي عدد من كبير من الزملاء بالمزيكة والتحقت بمدرسة البرقيق، وهناك تلقيت مبادئ اللغة الإنجليزية على يد مدني محمد عبد الماجد (ام درمان-بيت المال) ناظر المدرسة، وكان تربويا من طينة عثمان كنة، فقد كان يدرسنا نهارا ويسامرنا مساء ويثقفنا بأمور كثيرة، وهو الذي علمنا استخدام الفرشة والمعجون للسواك، ثم جاء بعده محمد بشير الأحمدي (بربر) ووجدني مغرما باللغة الإنجليزية فجعلني أمين المكتبة وانا في الصف الثالث.
ولما انتبه الى أنني أكملت قراءة جميع الروايات الإنجليزية الموجودة في المكتبة، قال لي: بعد دا عليك باللغة العربية وأعطاني ديوني الخمائل والجداول لإيليا أبو ماضي، وصار يطلب مني كتابة نصوص لأقرأها خلال مسامرات الجمعية الأدبية التي كانت تنعقد في عموم مدارس السودان مساء كل إثنين.
المهم ان إعجابي الشديد بعثمان كنه ومن بعده بمحمد احمد مدني ثم محمد بشير الأحمدي الذين رأيت فيهم تفانيا في حب تلاميذهم ومهنتهم هو الذي شحنني برغبة عارمة للعمل في مجال التدريس، ولم يضعف هذه الرغبة ان أحد المعلمين في المرحلة الابتدائية كان وحشا قاسي القلب يتلذذ بجلدنا أحيانا بدون سبب، وحتى في البرقيق الوسطى صادفت مدرسا صاحب لسان زفر ومزاج عكر، ولكن بقي التدريس في ذهني مرتبطا بذلك الثلاثي الخلوق.
(في سيرة ومسيرة كل واحد منا هنا مدرس/ مدرسة أو أكثر تركوا أثرا إيجابيا، وافتح المجال أمامكم لتزجوا عاطر التحايا لهذه الفئة من المعلمين ب”الاسم”)