احتراف حرب الشوارع في الخرطوم: تاتشر ودراجات نارية و”الكدمول”
عند اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي كانت تشكل أكبر وحداته البرية، لم يتوقع الكثير من السودانيين أن يطول أمد الحرب بسبب تفوق عتاد الجيش السوداني، ذي التاريخ المليء بالحروب الداخلية. لكن الصراع دخل شهره الخامس، وطاول معظم ولايات البلاد الثماني عشرة.
وفي صباح 15 إبريل/ نيسان الماضي، استيقظت الخرطوم على أصوات الرصاص الكثيف، في منطقة المدينة الرياضية جنوب العاصمة، حيث تعسكر قوة كبيرة من قوات الدعم السريع.
وسرعان ما دوت أصوات القصف المدفعي، وامتلأت شوارع مدن العاصمة الثلاث، الخرطوم وبحري وأم درمان، بالسيارات العسكرية والمدرعات، ما صعب على المواطنين حتى الخروج من منازلهم.
مضت الأيام والأسابيع والأشهر ولم تُحسم الحرب لصالح أي من الطرفين، إذ أصبحت تدور وسط الأحياء السكنية وداخل الأزقة والشوارع وعلى أسطح المباني. وشكلت أساليب “حرب الشوارع”، التي تستخدمها قوات الدعم السريع، تحدياً أمام التفوق العسكري للجيش السوداني، الذي اتهم “الدعم السريع” بتجنيد الأطفال واستخدام المواطنين دروعاً بشرية، عبر التمركز وسط الأحياء السكنية.
استخدمت قوات الدعم السريع الدراجات النارية في الهجمات السريعة وعمليات الاستطلاع والمراقبة
كما أن المروحيات العسكرية التي هاجمت آليات “الدعم السريع” في الأيام الأولى للحرب، تعرضت للاستهداف من المضادات الأرضية المخبأة بين المنازل وتحت الأشجار، ما تسبب في دمار هائل للمساكن والبنى التحتية.
استخدام “الدعم السريع” أساليب حرب الشوارع في الخرطوم
لجأت قوات الدعم السريع في المعارك داخل الخرطوم وعواصم الولايات التي تشهد اشتباكات، إلى استراتيجية حرب السيارات لمواجهة دبابات وآليات الجيش السوداني المدرعة والاكثر تقدماً، ثم استخدمت بكثافة الدراجات النارية في الهجمات السريعة وعمليات الاستطلاع والمراقبة.
وركزت “الدعم” على استخدام سيارات تويوتا – تاتشر السريعة والاشتباك أثناء الحركة، وعدم احتلال موقع لأكثر من ساعة، ثم التحرك بالسيارات لموقع آخر. وتعد سيارات “تويوتا تاتشر” رمزاً للحرب في السودان، نظراً لأنها سريعة وخفيفة، كما تلطَّخ بالطين مع قص كابينة القيادة وترك المقاعد مكشوفة، بما لا يترك أي زجاج لعكس الضوء أو الشمس.
وسبق أن استخدم هذا الأسلوب من قبل الحركات المسلحة في دارفور، ومن هنا جاءت تسمية “الدعم السريع”. وأدى اتساع هذه الظاهرة في الإقليم منذ شهد حرباً بداية من عام 2003، والتركيز عليها من قبل عصابات النهب والمليشيات التي تهاجم المدن بدارفور، إلى اتخاذ حكومات ولايات دارفور قراراً بحظر استخدام الدراجات النارية هناك، قبل أن تلحق بها ولاية شمال كردفان.
أطفال سودانيون نازحون وسط الحرب في السودان (فرانس برس)
قضايا وناس
الأمم المتحدة تحذّر: الحرب والجوع يهدّدان بتدمير السودان بالكامل
وفي جولة لـ”العربي الجديد”، على عدد من أحياء الخرطوم، ظهر جلياً أن قوات الدعم السريع استفادت من طبيعة المدينة الآهلة بالسكان والمكتظة بالمباني المترابطة بالممرات الضيقة، وهو ما جعلها تنتشر فيها بكثافة، مستخدمة سيارات الدفع الرباعي والدراجات النارية، ونشر القناصة على أسطح المباني العالية.
مشاركة الدراجات النارية في المعارك
وحسب ما رصدت “العربي الجديد” تشارك الدراجات النارية بكثافة في هذه المعارك. فقد استولت قوات الدعم السريع على عدد كبير من الدراجات، انتزعت جزءاً منها من المواطنين والجزء الآخر من مخازن الشركات وأقسام الشرطة والمؤسسات الحكومية، بينما يستخدمها الجيش بعدد قليل.
وقد شوهدت هذه الدراجات يقودها مسلحون صغار في السن، شارك الكثير منهم في الهجوم على سلاح المدرعات أخيراً.
وقال المواطن محمد الشيخ، الذي يعمل في شركة محلية لتجارة الدراجات النارية، لـ”العربي الجديد”، إن قوة من “الدعم السريع” استولت على نحو 300 دراجة نارية من مخازن الشركة، بعد أيام قليلة من اندلاع المعارك في إبريل الماضي، وحملوها في شاحنات، مبيناً أن صاحب الشركة اضطر لتهريب بقية محتويات مخازنه إلى ولاية أخرى.
الكدمول بدل القبعة العسكرية
كما لاحظت “العربي الجديد” أن جنود وضباط “الدعم السريع” في الخرطوم خلعوا القبعات العسكرية النظامية المعروفة التي كانوا يضعونها قبل الحرب، وعادوا للالتزام بما يعرف في السودان باسم “الكدمول”، وهي عمامة تلف على الرأس وتغطي الفم والأنف وتترك العينين فقط، وتكون بألوان متعددة، ليس من بينها الأبيض.
ماهر أبو الجوخ: سيترتب على استمرار الحرب اللجوء للتجنيد القسري للأطفال
وعُرفت “الدعم” باعتمار “الكدمول”، الذي يمثل شعاراً للتمرد قبل أن تتحول إلى قوة عسكرية رسمية في العام 2013. وكذلك اشتهرت بارتدائه الحركات المسلحة التي كانت تقاتل نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في دارفور. وتقي هذه العمامة، التي مُنعت سابقاً داخل مدن دارفور، مرتديها من الشمس والغبار والبرد، حيث إنها تغطي الرأس حتى العنق، وأصبحت تميز عناصر “الدعم السريع” الآن، لأن جنود الجيش لا يستخدمونها.
وخلال الهجمات المكثفة التي تعرض لها سلاح المدرعات وسط الخرطوم قبل أيام، استخدمت قوات الدعم السريع سيارات “تاتشر” السريعة والدراجات النارية، وهاجمت الموقع من اتجاهات متعددة، حيث تتوسط قاعدة سلاح المدرعات خمسة أحياء تربطها شوارع متداخلة.
وجرى الهجوم عبر ما يعرف لدى هذه القوات باسم “الفزعة”، وهي مساندة متعددة الاتجاهات تدعم القوة الرئيسية المهاجمة، وتأتي من مناطق مختلفة.
استخدام الجيش أسلوب حرب الشوارع
أما قوات الجيش فلم تكن بمنأى بدورها عن استخدام تكتيكات حرب الشوارع، إذ عمدت إلى استعمال ذات الأساليب وسط العاصمة لمهاجمة مجموعات “الدعم السريع” الصغيرة والسريعة، مدعومة بالطائرات المسيرة.
ورصدت “العربي الجديد” هجوماً نفذته طائرة مسيّرة في شارع نوباتيا في حي الكلاكلة جنوب الخرطوم (متى)، حيث اشتبكت سيارة للجيش، كانت تحرس الشارع مع مسلحين من “الدعم” في سيارة صغيرة، قبل أن تأتي طائرة مسيرة وتقصف مركبة الجيش، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد منهم.
استخدام الدراجات النارية بالمعارك ليس جديداً
وقال الكاتب والمحلل السياسي، ماهر أبو الجوخ، لـ”العربي الجديد”، إن ظاهرة استخدام الدراجات النارية في حرب الشوارع ليست أمراً جديداً، فهو تكتيك تم استخدامه بشكل كبير خلال معركة هجليج بين السودان وجنوب السودان في مايو/أيار 2012، وهو تطوير لاستخدام الخيول، مع تميز الدراجات النارية مقارنة بالخيول بالسرعة الكبيرة، والملائمة لاستخدام المدن.
ورأى أبو الجوخ أن ظهورها في الخرطوم خلال الحرب قد يكون هو المشهد غير المألوف لقاطني العاصمة، لكن التحول الجديد في حرب الشوارع هو توظيف أشكال جديدة بهدف التمويه، كاستخدام “التوكتوك” والسيارات الصغيرة، ضمن خيارات التعويض عن الآليات القتالية الأساسية.
وأضاف: “لأن المركبات العسكرية معلومة الشكل وسهلة الاستهداف، لاحظنا في المعارك، التي وقعت في الشهرين الأخيرين، استخداماً لتلك المتحركات (الآليات) البديلة”.
وأشار إلى أن تجنيد الأطفال، وحتى البالغين، أمر يتماشى مع طبيعة الحروب واستمرارها، لأن الأطراف المتحاربة تظل في حاجة دائمة لتعويض مقاتليها، وبالتالي هذه إحدى تداعيات الحرب، لكن هذا التحول من شأنه أن يفرز آثاراً مستقبلية لخلقه لظاهرة الأطفال المحاربين، كما حدث في دول أفريقيا الغربية، وهو ما سيتطلب معالجتها ضمن الحُزم الموضوعة لمعالجة آثار الحرب.
وحسب أبو الجوخ فإنه من المؤكد أن استمرار الحرب سيترتب عليه اللجوء للتجنيد القسري للأطفال، باعتبارهم الأكثر قدرة على القتال والمغامرة لعدم وجود مسؤوليات على عاتقهم، ولذلك فإن ضمان منع تمدد وتطور هذه الظاهرة وخطورتها يستوجب إنهاء هذه الحرب بأسرع ما يكون، لتجنب العديد من الظواهر، بما في ذلك تجنيد الأطفال.
العربي الجديد