موت خلف الأبواب.. مدنيون عالقون في الخرطوم وسط الأوبئة والعمليات العسكرية

مع تفشي الحميات والملاريا في العاصمة الخرطوم، يواجه المدنيون خطر الموت خلف أبواب المنازل بسبب نقص الرعاية الصحية في مدن تُلقي العمليات العسكرية العبء الأكبر عليها، مع غياب الأدوات الدولية والمحلية الفعالة لإقامة ممرات آمنة، وفق عمال إنسانيين.

عامل إنساني: يجب الضغط على قوات الدعم السريع للسماح بعمل المنظمات في مناطق سيطرتها؛ لأن أغلب معاناة المدنيين ناتجة عن حصار هذه القوات
في مدينة شمبات شمال العاصمة الخرطوم، في محلية بحري الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع، لا يمكن للناس الحصول على العلاج المناسب للحميات والملاريا والتيفوئيد، وفق حنان المتطوعة الإنسانية، لأن الوضع خارج عن السيطرة، وانتهى المطاف بالصيدليات والمراكز الصحية إلى عمليات نهب واسعة نفذتها قوات الدعم السريع منذ بداية القتال، وعندما لم تجد شيئًا أضحت تداهم المطابخ الجماعية.

المريض يقشعر بدنه من فرط الحمى، بالكاد وصل إلى عيادة صحية يشرف عليها متطوعون لا يمكن الإعلان عنها؛ لأن قوات حميدتي تجبر الكوادر الطبية على العمل معها لنقص الأطباء في صفوفها. عندما جلس على نقالة طبية، وصل مرحلة التشنجات، وكانت روحه قد صعدت إلى السماء، تضيف حنان التي غادرت المنطقة لتجنب حصار جديد يلوح في الأفق في الخرطوم بحري.

موت الآلاف

كانت هذه الواقعة واحدة من المآسي التي تواجه عشرات الآلاف من المدنيين في الخرطوم بحري مع نقص الغذاء والدواء والرعاية الصحية، وفق حنان التي تحذر من أن استمرار الحرب وبقاء قوات الدعم السريع في الخرطوم بحري قد يؤديان إلى موت الآلاف بنهاية العام بالملاريا والجوع والحميات والوبائيات ونقص الدم.

تقع الخرطوم بحري على الضفة الشمالية من نهر النيل الأزرق، واضطر مئات المدنيين إلى استقلال المراكب البدائية للوصول إلى أم درمان في مناطق سيطرة الجيش، لمغادرتها إلى الولايات الآمنة شمالًا وشرقًا. ولا يمكن للمواطنين استخدام الحافلات لانهيار جسر شمبات الرابط بين المدينتين وانتشار القوات العسكرية من الطرفين على جسر الحلفايا.

الحميات تفتك بالمواطنين

أما في الخرطوم، نعت لجان مقاومة حي الامتداد الدرجة الثالثة، الثلاثاء الماضي، عضو المقاومة خالد عبد الله الذي توفي متأثرًا بالحمى التي لم تمهله طويلًا، حسب لجنة المقاومة.

وكانت غرفة طوارئ البراري قد أكدت تفشي الحميات والملاريا في أحياء شرق الخرطوم، مع نقص الرعاية الصحية، واضطر بعض المتطوعين إلى الطواف على المنازل لأخذ العينات من المرضى وإيصالها إلى العيادة التي تقع داخل مركز إنساني.

عامل في المجال الإنساني: حياة الناس مليئة بالمشقة والضنك، مع نقص الطعام والمستشفيات
يقول عبد الوهاب، العامل الإنساني في مناطق الجريف غرب، إن حياة الناس مليئة بالمشقة والضنك، مع نقص الطعام والمستشفيات، ولا يمكن الاعتقاد أن الأمور ستكون على ما يرام قريبًا في ظل انسداد الأفق وغياب الأمل.

وأضاف: “في بعض الأحيان لا يمكن للناس أن يشعلوا الشموع لإضاءة غرفة المعيشة؛ لأن المال هو المتحكم في تسيير شؤونهم وهم لا يعملون، يعتمدون على تحويلات الأقرباء، وأحيانًا تكون غير منتظمة”.

ويقول عبد الوهاب لـ”الترا سودان” إن استخدام نقاط الإنترنت في المنطقة عادة يكون بحذر؛ لأن عناصر الدعم السريع هي التي تتحكم في هذه الخدمة في مراكز الاتصال الفضائي، وعلى الدوام تفعل عملية المراقبة لأنها تعتقد أن الناس يتعاونون مع الجيش ويرسلون المعلومات بشأن مناطق تمركزها لضربها بالطيران.

بقايا مدينة مدمرة

تقع منطقة الجريف على شاطئ النيل الأزرق الذي يفصل بين محلية الخرطوم ومحلية شرق النيل، ويربط بينهما جسر المنشية شرقًا تحت سيطرة قوات الدعم السريع، ومن الصعب العبور بواسطة الحافلات بشكل آمن.

كما تقع أحياء الرياض والمنشية والطائف وأركويت شرق العاصمة الخرطوم، والتي نزح أغلب سكانها منذ الأسابيع الأولى للحرب، منتصف نيسان/أبريل 2023، وتعد من أرقى الأحياء في العاصمة الخرطوم، وترتفع فيها القيمة السوقية للعقارات قبل الحرب.

اليوم، بعد 17 شهرًا من القتال بين الجيش والدعم السريع، أصبحت هذه المناطق وكأنها بقايا مدينة قديمة تعرضت إلى مجموعة قنابل، وانتشار عصابات النهب في الأسابيع الأولى حولها إلى شيء أقرب إلى “التشليع”. تشاهد المتاجر والمنازل أشبه بمنشآت خرجت للتو من عملية “غزو للكائنات الفضائية”، أخذت ما غلا ثمنه وخف وزنه، ثم مؤخرًا مع نفاد المحال والبيوت من المعدات والأثاثات، لم تترك حتى النوافذ والأبواب والأشجار، وكأنهم يمنعون المنازل من أن تظل مشرعة أمام الأمل، وفق عبد الوهاب الذي يتحسر على أحوال الخرطوم، المدينة التي كانت تضج بالحياة وكثافة السكان.

فشلت قوات الدعم السريع في تسيير شؤون المواطنين ونشر الخدمات الأساسية، على الرغم من تعيين موظفي المجالس المحلية في جميع أنحاء العاصمة الخرطوم.

يقول عبد الوهاب: “عجزت المنظمات الإنسانية عن الوصول إلى مناطق شرق الخرطوم بصورة يومية، وبالكاد تحصل على تصاريح المرور عبر سلسلة من البيروقراطية في إجراءات تتنافى مع تصريحات قائد الدعم السريع بالتعاون في الشأن الإنساني”.

الصمود في وجه المعاناة

في أحياء الصحافة جنوب الخرطوم، لم يكن الوضع هناك مختلفًا عن شرق العاصمة، على الرغم من عدم قدرة مئات العائلات على الصمود في وجه المعاناة طويلًا. بعد مرور عام، غادر نصف سكان هذه المنطقة التي تشتهر بالكثافة السكانية.

تقول عبير، التي نزحت إلى ولاية نهر النيل من حي الصحافة جنوب الخرطوم، إن الناس في الأسابيع الأولى للحرب قرروا البقاء إلى حين انتهاء القتال، وكانوا يأملون أن ينتهي سريعًا بانتصار الجيش، كما حصلوا على الوعود في الأسبوع الأول. لكن مع استمرار الصراع المسلح ووصوله إلى العام الأول ثم الإبحار إلى نصف العام، قرر غالبية السكان في المربع الذي أقطن فيه النزوح.

نازحة من الخرطوم: محطة المياه لا تعمل، أغلب البنية التحتية للكهرباء دُمرت، وفي الآونة الأخيرة بعض العصابات بالتعاون مع الدعم السريع تعمل على نهب المحولات والكابلات
وأضافت: “محطة المياه لا تعمل، أغلب البنية التحتية للكهرباء دُمرت، وفي الآونة الأخيرة بعض العصابات بالتعاون مع الدعم السريع تعمل على نهب المحولات والكابلات. حتى إذا انتهت الحرب وعاد الناس إلى بيوتهم، سينتظرون طويلًا لعودة التيار الكهربائي؛ لأن البنية التحتية دُمرت بالكامل ونُهبت”.

وتقول: “يتناوب الرجال على جلب المياه من أقرب مرفق، ويمكن أن تشتري من الأسواق الشعبية التي انتشرت وتشرف عليها قوات الدعم السريع. مثلًا يمكن الذهاب إلى السوق المركزي لشراء عبوات قليلة من المياه بأسعار فلكية. أنا أتحدث عن شراء مياه ملوثة وأنت مضطر، لا مياه نظيفة”.

بينما يقول عامل في منظمة دولية إنسانية زار الخرطوم أكثر من مرة إن المعلومات الواردة من الأحياء السكنية سيئة للغاية ومحبطة؛ لأن الإصابات بالملاريا والحميات جاءت نتيجة شح الغذاء وانتشار النواقل مثل البعوض في موسم الأمطار. ولا تتخذ قوات الدعم السريع التي تسيطر على المنطقة الإجراءات المعقولة للحد من المخاطر، مشيرًا إلى أن مئات المواطنين ماتوا متأثرين بالمرض الذي يترافق مع الجوع الحاد. كعادة السودانيين يشعرون بالجوع ولا يجأرون بالشكوى خاصة أمام الأطفال، الأولوية للصغار.

وتابع: “الأحياء المنكوبة بالحميات والملاريا والجوع تسيطر عليها قوات الدعم السريع. عليها أن تسمح بوصول المساعدات الطبية والإنسانية والعيادات الميدانية فورًا، وعلى منظمات المجتمع المدني الضغط على هذه القوات لإلغاء القيود العسكرية ووضع الثقة في العمليات الإنسانية لإنقاذ عشرات الآلاف من المدنيين”.

الترا سودان


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.