من حكايات الدمازين وأغنياتها: مسرح سوداني في زمن الحرب

عند الحديث عن ولاية النيل الأزرق السودانية، الواقعة على المنطقة الحدودية بين إثيوبيا وجنوب السودان، يُخيَّل إلينا أنّنا في سفَر إلى منطقة بعيدة جغرافيّاً، لكن ما إن ندخلها من باب المسرح نجد أنّ الأمر قد اختلف فوراً، وأننا أمام هموم واحدة ولغة مشتركة. وهذا ما حاولناه في اتصال مع المُنسّق الإداري لمجموعة “منطقة صناعة العرض المسرحي”، الهادي الشوّاف، المُقيم حالياً في مدينة الدمازين (532 كلم جنوب الخرطوم)، والذي تحدّث إلى “العربي الجديد” عن حكاية الفرقة التي نشطت بعروضها الفنّية والمسرحية في المدينة الآمنة نسبيّاً، بعد اشتعال الحرب في العاصمة الخرطوم والولايات الشمالية في الرابع عشر من نيسان/ إبريل 2023.

يتحدّث الشوّاف موضّحاً المراحل التي مرّت بها مجموعة “منطقة صناعة العرض المسرحي”، يقول: “بداية الفكرة كانت عام 1996 وتشكّلت في رحم مجموعة ‘البسانس للآداب والفنون’ في الخرطوم، على يد أحد مؤسّسيها الفنّان المسرحي وليد الألفي، ثم تجربة جماعة ‘المشيش’ بمدينة نيالا (900 كلم غرب الخرطوم) في إقليم دارفور عام 2003، مروراً بمجموعة ‘مسرح الواقع الجديد’ عام 2009، بالإضافة إلى تجارب متعدّدة في مناطق النزاعات والعمل وسط النساء والأطفال (الأطفال الجنود، وفاقدو السند، ومن هُم في وضعية الإعاقة، وفي معسكرات النزوح وضحايا النزاعات المسلّحة)، كلّ هذه التجارب ساهمت في بناء المشروع الذي تبلور بشكله الحالي في العام 2015، وكان نتاج هذه التجربة، إلى اليوم، أكثر من ثمانية وستين عرضاً مسرحياً، وأكثر من مئة وثلاثين ورشة في مجالات متعدّدة استهدفت ما يزيد على ألفي شخص”.

تأسست المجموعة عام 2015 وقدّمت أكثر من 68 عرضاً

أمّا عن خيار النيل الأزرق، فيصف الشوّاف علاقة الفرقة بهذه الولاية: “علاقتنا قديمة مع إقليم النيل الأزرق وخاصة مدينة الدمازين، بدأت بأول ورشة لنا فيها عام 2016، ثم بإطلالة ثانية على الإقليم كانت بعد اختيار الدمازين واحدة من ثلاث مدن قدّمنا فيها مسرحية ‘آيس دريم’ في نيسان/ إبريل 2023، قبل اندلاع الحرب بفترة قصيرة، والتي قدّمت معالجة فنّية لقضيّة تكدُّس جُثث المتظاهرين في المشارح إبّان فضّ اعتصام ‘القيادة العامّة’ في الخرطوم بالثالث من حزيران/ يونيو 2019”.

ويُتابع: “وبعد الحرب الأخيرة عُدنا مرّة ثانية إلى المدينة لإقامة ورشة ‘تطوير الأداء المسرحي وبناء المكان’، تلاها في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 البدء بمشروع ‘مسرح البنات’ في إقليم النيل الأزرق، باعتباره تكملة للورشة، واستجابةً لضرورة تمكين العُنصر النسوي في مجال المسرح ومناقشة قضايا النساء. فانطلق المشروع في نسخته الأولى بتدريب واحد وعشرين شابّا وشابّة، وتم إنتاج ثلاثة عروض مسرحية قصيرة وعرضها في تسع مناطق مختلفة في محافظات الولاية: باو والروصيرص والدمازين، وحضرها وتفاعَل معها عددٌ كبير من الجمهور المحلّي”.

ويُضيف الشوّاف في حديثه إلى “العربي الجديد”: “بعدها كانت النسخة الثانية من مشروع ‘مسرح البنات’، في أيار/ مايو الماضي، والتي أطلقنا من خلالها مشروع ‘حكاوي غناوي’، وهو عبارة عن مسرح غنائي اعتمد على حكايات الأغاني المحلّية، واستهدفت الورشة اثنين وعشرين شخصاً منهم سبع عشرة شابّة وخمسة شبّان، وأنتجت الورشة عرض ‘حكاوي غناوي’ الذي قُدّم في ستّ مناطق مُختلفة من الولاية. وكان الجمهور هو البطل في كِلا المشروعين حيث حضر وتفاعَل مع العروض بصورة مدهشة. وجدنا جمهوراً ذوّاقاً ومُحبّاً ومتعطّشاً للمسرح، خاصة في المجتمعات المحلّية بعيداً عن المدن. جمهور جسّد تماماً شعار المشروع ‘لكُلّ مكان أُغنية ولكُلّ أُغنية حكاية’، وامتداداً لذات التجارب تمّ إنجاز ورشة الكتابة الإبداعية ‘نصّي الأول’ التي استهدفت ثلاث نساء أنتجن ثلاثة نصوص مسرحية، وأُخرى مع مجموعة ‘نيلنا’ الغنائية التي أنتجت أغنية ‘أنا مشتاق’ من كلمات وألحان وليد الألفي وأداء المجموعة”.

يشمل نشاطها الكتابة الإبداعية والغناء ولا تقتصر على المسرح

أمّا عن خلفية المُشاركين في الفرقة فيقول الشوّاف: “منذ التأسيس ظلّت هذه التجربة تستوعب وتعمل وسط الهُواة الذين لم يكونوا جزءاً من المؤسسات الرسمية بشكل أساسي، وخاصة في المناطق الطرفية والأقاليم والمناطق التي لا تتوفّر فيها فرص للتدريب على المسرح. لهذا نجد أنّ معظم أعضاء مجموعة ‘منطقة صناعة العرض المسرحي’ لا ينتمون إلى حقل المسرح بشكل أساسي فمنهم المهندس والميكانيكي والحدّاد والتشكيلي وكاتب القصة والرواية والمحامي والطالب”.

ويستذكر الشوّاف أبرز المحطّات أو العروض التي قدّمتها المجموعة، منذ ما قبل تسجيلها رسمياً فرقة مسرحية حتى اليوم، ومن بينها: “كايليك ألفا” (2006) التي عكست جانباً من فظاعة النزاع في دارفور، و”أهل الكهف” (2008)، و”عيد الحبّ” (2010)، و”نوم البنات” (2015)، و”لبن العشر” (2017)، و”خروج.. ألف ليلة وليلة” (2017)، و”كرّاس حساب” (2019)، و”النسر يستردّ أجنحته” (2021)، ومسرحية “آيس دريم” (2021) وكلّ هذه العروض من تأليف وإخراج الصنائعي وليد عمر الألفي، وأغلبها شارك بمهرجانات عربية ودولية، ونال بعضها جوائز عديدة. لكنّ هذا العام لم تتمكّن الفرقة من السفر للمشاركة في مهرجانات مختلفة، منها: “Ramad Art” بتونس، و”مهرجان المسرح العربي” في بغداد، بسبب الحرب وتعطُّل حركة الطيران في البلاد منذ أكثر من عام ونصف العام.

ويختم الهادي الشوّاف حديثه إلى “العربي الجديد” بالإشارة إلى أبرز التحدّيات التي تواجهها “منطقة صناعة العرض المسرحي”: “هناك تحدّيات كثيرة، لكنّ أبرزها استمرارية الحرب وعدم الاستقرار والظرف الاقتصادي العام، وتشتُّت أعضاء المؤسسة خارج السودان وداخله بالإضافة لمعضلة التمويل ودعم المشاريع والأنشطة. لكن مع ذلك نحاول دائماً الاعتماد على مواردنا الخاصّة وعلى البيئة السودانية المحلّية الغنيّة في بناء المكان المسرحي من ديكور وإكسسوارات وإضاءة وأزياء فيتمّ استلهام البيوت السودانية العادية وطريقة الإضاءة فيها بالإضافة لتوظيف ضوء القمر والمصادر الطبيعية للضوء. مع استخدام ما هو متاح من موادّ في الديكور وبناء المكان وتفصيل الأزياء عن طريق ما يعرف بعملية التدوير أو الإنتاج البديل حتى لا تكون الإمكانات والتمويل سبباً في تعطيل الإنتاج المسرحي، إذا نظرنا في ما حولنا سوف نجد الكثير ممّا يُمكن توظيفه في صناعة العرض المسرحي، فقط نحتاج إلى الخلق والابتكار والتفكير الإبداعي خارج الصندوق، وعدم الركون والاستسلام والكسل”.

العربي الجديد


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.