حوار عدنان عوض مع د عمرو صالح يس مؤلف كتاب التفكير النقدي
حوار عدنان عوض :
التعريف بالكتاب :
كتاب التفكير النقدي : مدخل في طبيعة المحاجة وأنواعها، يعتبر مدخلا لفرع من المنطق حديث النشأة يسمى المنطق اللا صوري. حيث نشأ هذا الفرع من المنطق في السبعينات من القرن الماضي برعاية من جامعة ويندسور الكندية كاستجابة لتحدي ضرورة إنتاج أدوات معرفية تُمكِّن الإنسان من نقد المواقف المختلفة في الحوارات العامة في التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والإدارة وغيرها من الإنسانيات، وذلك خلافا لـ المنطق الصوري الذي كان ولا يزال ذا طابعا حسابيا صارما وشديد الارتباط بالرياضيات. فالكتاب بوصفه مدخلا للمنطق اللا صوري، يُقدِّم أدوات متنوعة في تحليل وتقييم وتركيب المحاجة باعتبارها البنية اللغوية الفاعلة في التفاعل مع المعلومات وتكوين القناعات وصناعة الأهداف واتخاذ القرارات ومحاولات الإقناع، مما يساعد الإنسان على التفكير نقديا في مواقف الآخرين الفكرية ومواقفه الخاصة.
والكتاب الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر بتاريخ سبتمبر 2015 بعدد 335 صفحة، يمثل فصلين فقط من جملة عشرة فصول، ستصدر تباعا خلال الفترة القادمة. وهو مكتوب بطريقة حوارية سلِسة بين متخصص في المجال وتلميذ له، كما أنه مصحوب بمجموعة من الرسومات التوضيحية والملخصات علي الهوامش الجانبية. هذا بالإضافة إلى أن هذا الكتاب صادر باعتباره الكتاب الثاني عشر ضمن سلسلة أدوات قادة النهضة للدكتور جاسم سلطان. وهي سلسلة تهدُف لتزويد الشباب الناطق باللغة العربية بمجموعة من الأدوات الاجتماعية والإنسانية في شكل مداخل لأهم هذه المجالات كالتاريخ والسياسة والاقتصاد والجغرافية السياسية والتفكير الاستراتيجي وغيرها بهدف التحسين من قدرتهم على اتخاذ القرارات المتعلقة بتفاعلهم مع الواقع.
التعريف بالكاتب :
هو عمرو صالح يس من مواليد الخرطوم 1986 تخرج في كلية الطب جامعة الخرطوم في العام 2009، ثم غيّر مجال بحثه واهتمامه للعلوم الإنسانية. شرع المؤلف في كتابة مؤلَّفِه منذ شهر يونيو من العام 2011، ومنذ ذلك الحين نشِط في تدريب العديد من الشباب السوداني في مجال التفكير النقدي، بالإضافة إلى مواد تدريبية أخرى من مواد مشروع النهضة للدكتور جاسم سلطان. في العام 2015 قُبِل المؤلّف لإكمال الدراسات العليا في الفلسفة في جامعة ويندسور الكندية المؤسِّسَة للمنطق اللا صوري، اعتمادا على جزء مترجم من كتابه، كما أنه قُبل حديثا في شهر مايو من العام 2016 ، اعتمادا على ذات الجزء، لإكمال الدراسات العليا في الفلسفة في جامعة سينت آندروز البريطانية والتي يُعتبر قسم الفلسفة فيها الثالث على مستوى بريطانيا بعد كل من جامعتي أكسفورد وكامبردج وواحد من أبرز الأقسام على مستوى العالم.
(أ)
س : عندما نسمع أو نقرأ كلمة (المنطق) يتبادر للذهن العديد من المعاني، فقد يتبادر لنا أنه الكلام الذي يقبله العقل، ونصفه بأنه مقبول أو معقول أو منطقي، وقد يتبادر لنا أنه ما يشير إلى ما سوى المغالطات المنطقية، وهي العادات الخاطئة التي نمارسها في النقاش. فمثلاً : إذا أبديت رأيك في موضوع ما، ثم رددت عليك باتهام في شخصك فهنا أكون قد ارتكبت مغالطة (الشخصنة)، وقد يتبادر لنا أيضا أنه المادة التي تدرس في الجامعات، المعقدة بطبيعتها والتي بمعرفتها نستطيع التفكير بصورة صحيحة ونتجنب الوقوع في الخطأ. فهل هذه المعاني صحيحة في تحديدها لمعنى المنطق؟
ج : بالنسبة للتصور الأول الذي قلت به، وهو ما يتبادر لنا من أن (المنطق) هو الكلام الذي يقبله العقل ونصفه بأنه مقبول أو معقول أو منطقي، فإن هذا التصور لكلمة (المنطق) يقودنا ببساطة لأحد أهم الأسئلة التي ميزت التقسيم الحديث للمنطق باعتباره منطقاً صورياً ومنطقاً لا صورياً. لأن المدرسة القديمة- الصورية-، والتي تمتد من زمن أرسطو، تتحدث عن المنطق باعتباره مبحث غاية في الموضوعية، حيث يعد كل من المنطق الصوري القديم والمنطق الرياضي الحديث والرياضيات مباحث تمثل النموذج الأعلى للمعقولية وأقصى درجة من درجات الموضوعية . لكن، وفي الحقيقة، نحن نلحظ أن كلمات (مقبول) و(معقول) و(منطقي) كلمات خلافية جداً وبالذات عندما نتناولها في تقييم المواقف التي تطرأ في الحوارات العامة كالحوارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية التي تجري في الفضاءات المختلفة في مجتمعاتنا. فهنا، بينما نتفق مثلاً وبطريقة غاية في الموضوعية على أنه إذا كانت 2س 4 = فإن س= 2، وقد نصف هذا الخبر بأنه منطقي ومقبول، نحن بالمقابل نختلف بدرجة كبيرة في تقييم الفتاوى الدينية والآراء السياسية والسياسات الاقتصادية والعادات الاجتماعية المختلفة. فما قد يراه البعض مقبول ومعقول ومنطقي في هذه المجالات قد لا يراه آخرون كذلك، وذلك عكس البراهين الرياضية التي يبدو أننا لا نختلف كثيرا تقييمها.
فإذا لم نُخِل بالقول يمكن أن نقول أن المنطق الصوريFormal Logic يهتم ببيان (المقبول) و(المعقول) و(المنطقي) من الاستدلالات في مجالات محددة ذات طابع موضوعي، بينما يبحث المنطق اللا صوري Informal Logic في دراسة (المقبول) و(المعقول) و(المنطقي) من الاستدلالات في الحوارات العامة ذات الطابع الخلافي أو الجدلي.
فالمنطق نشأ صورياً وهو يهتم أو يتعامل بشكل رئيسي مع اللغة الخبرية التي تصف العالم، ويدرس مدى صدقية أخبارها بناء على صحة استدلالها. فمثلا، لو أُخبرت أنه: إذا كان (عدنان في أمدرمان) فإن (عدنان في السودان)، ثم أخبرت أن: (عدنان في أمدرمان)، فهنا سيكون غاية المنطقية والموضوعية أن استنتج أنه: إذاً، (عدنان في السودان). وهنا يأتي سؤال المنطق الصوري وهو: لماذا لو صحّ الخبر الأول المقدمة الأولى والقائل إن: إذا كان (عدنان في أمدرمان) فـإن (عدنان في السودان)؛ وصح الخبر الثاني المقدمة الثانية القائل إن: (عدنان في أمدرمان)؛ توجد حتمية في غاية الموضوعية أن نستنتج الخبر الثالث أو النتيجة القائلة إن (عدنان في السودان)؟
فالمنطق الصوري يبدأ في محاولة استكشاف هذه الحتمية الضرورية والموضوعية ودراسة الاستدلالات الاستنتاجية التي لها هذا الشكل. وفكرة الصورية في هذا المنطق والتي جاء منها اسم المنطق الصوري جاءت من أن هذا المنطق في الحقيقية يدرس أشكال هذه الاستدلالات الاستنتاجية وليس محتواها. فلو رجعنا للمثال السابق:
إذا كان (عدنان في أمدرمان) فإن (عدنان في السودان)
(عدنان في أمدرمان)
إذاً،
(عدنان في السودان)؛
ورمزنا للخبر القائل إن: (عدنان في أمدرمان) بــالحرف (أ)، ورمزنا للخبر القائل إن: (عدنان في السودان) بــالحرف (ب)؛ فسنجد أن هذا الاستدلال في هذا الاستنتاج أخذ (الصورة) العامة التالية:
إذا (أ) فإن (ب)
(أ)
إذاً،
(ب)
هذه الصورة يقال أنها هي ما يصنع الضرورية في هذا الاستنتاج وليس محتوى الأخبار المستنتجة أو المستنتج منها. وحتى نتبين ذلك دعنا نأخذ مثال آخر. وهو:
إذا كان (عدنان في بيروت) فإن (عدنان في السودان)
(عدنان في بيروت)
إذاً،
(عدنان في السودان)
هنا سنلحظ أن صورة الاستنتاج في المثال الأول هي نفس صورة الاستنتاج في المثال الثاني. هذه الصورة تستطيع أن تنتج نتائجها بصرامة موضوعية، وذلك بغض النظر عن محتوى أخبارها من حيث الصدق والكذب. بمعنى، إذا كانت مقدمات الاستنتاج في هذه الصورة صادقة فإن العقل يحيل أن تكون نتيجة الاستنتاج الذي يأخذ هذه الصورة كاذبة. فالمنطق الصوري سمي “الصوري” لأنه يهتم أساساً بدراسة هذه الصور الاستنتاجية الضرورية والتي تستطيع أن تنتج نتائجها بموضوعية يتفق عليها كل البشر إلا من رحم. فموضوعية المنطق الصوري جاءت من أنه يسعى لدراسة هذا اللزوم الضروري الآتي من صورة الاستنتاج وليس محتواه، وهو يدرس هذه الصور في هيئة الرمزية (أي يشير إلى الأخبار في شكل حروف: كـ أ، ب، وغيرها). وهكذا يصبح المنطق مبحث وثيق الصلة بالرياضيات فهو يشبه لحد كبير الجبر وحساب المثلثات.
وعليه، نشأ هذا المنطق منذ ولادته على يد أرسطو مهتماً بدراسة هذه الصورة المجردة للاستنتاج -ونحن ذكرنا في أمثلتنا أبسط صورها فهي قد تتكون من استنتاجات تتكون من عدد كبير جداً جداً من الأخبار والعمليات الرمزية-، لكن مع بداية القرن العشرين حدثت فيه طفرة كبيرة جداً عندما ولِّدت نظريات جديدة جراء أبحاث مناطقة وفلاسفة كـ قوتلوب فريجه Gottlob Frege وبرتراند راسل Bertrand Russel وأبحاث ما يعرف بفلاسفة دائرة فيينا. فلأسباب فلسفية بحتة متعلقة بطبيعة الرياضيات، بدأ يحدث تطور هائل في المنطق الصوري، كانت من أحد أهم نتائجه الطفرة التكنولوجية والرقمية الحديثة. حيث أن الأجهزة التقنية الحديثة مزودة باستدلالات استنتاجية لها صرامة رياضية فائقة يبرمجها فيها المبرمجون. فالمنطق الرياضي الذي استفادت منه هذه التكنولوجيا الرقمية هو نسخة معدلة ومطورة من المنطق الذي بدأه أرسطو لكنها تتبع لفكرة أن هناك أنماط استنتاج ضرورية تكتسب صرامتها المنطقية من صورها دون محتواها.
والآن، عودا على بدء، وهو ما تحدثت عنه من التصور الأول الذي قلت به للمنطق والذي يرى أنه هو الكلام الذي يقبله العقل، ونصفه بأنه (مقبول) أو (معقول) أو (منطقي)؛ السؤال لك وللقارئ: عندما تعيش حالة حجاج خلاف أو جدل مع الآخرين في مواضيع ساخنة كالثورات العربية وتقييمها من حيث الفشل والنجاح، عن الإسلام السياسي ماله وما عليه، عن منشأ داعش وهل هي صنيعة أمريكية أم وليدة التصورات الموجودة في المنطقة، عن أنظمة الحكم العربية، عن النهضة والتنمية في مجتمعاتنا وغيرها من الموضوعات خلافية، هل عند النقاش في هكذا موضوعات نحن نتبع نفس الصرامة الرياضية التي يهتم بدراستها المنطق الصوري؟ هل هناك أي معايير موضوعية صارمة حتمية وضرورية تبين لنا الكلام المنطقي من غير المنطقي في هذه الموضوعات كما هو الحال في الرياضيات؟ لماذا يا ترى لا يتفق أطراف الحجاج في هذه الحالة على موقف بعينه باعتباره ذو مقبولية موضوعية تماماً كما هو الحال في المثال الذي تناولناه وكما هو الحال في البراهين الرياضية؟
وهنا يظهر قصور المنطق الصوري في أنه يعجز إلى حد كبير في التعامل مع هذه الحالات من الاستدلالات الحجاجية ذات الطابع الخلافي. وذلك أولا، لأننا عندما نختلف في هكذا موضوعات لا نستخدم ذات الطرق الاستدلالية التي نستخدمها في الرياضيات عند حل مسألة رياضية. فالمنطق الصوري يبدأ في التعامل مع الاستدلالات بترميزها حيث يرمز للأخبار في شكل حروف (أ،ب) ويدرسها على هذا الأساس، وعند هذه اللحظة يكون قد انفصل عن حياتنا العامة بشكل من الأشكال لأننا لا نتعاطى الحجاج بهذه الطريقة الرمزية. وثانيا، لأن الاستدلالات الحجاجية التي نتبادلها عند الحديث في هذه الموضوعات الخلافية، ورغم أنها تأخذ نفس بنية الاستدلالات الاستنتاجية من حيث أنها تتكون من مقدمات ونتائج، إلا أنه من الواضح أن الاستدلالات الحجاجية ذات طابع أقل من حيث الصرامة الاستدلالية وأدنى من حيث الموضوعية والقابلية للاتفاق.
وعليه، يمكن أن نقول أنه إذا تناولنا تصور المنطق بأنه يعبر عن الاستدلالات المقبولة أو المعقولة أو المنطقية، فيمكن أن نقول أن المنطق الصوري والذي نشأ مع أرسطو وتطور بدرجة كبيرة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لا يستطيع أن يخدم هذا التصور إذا ما وضعنا في الاعتبار الاستدلالات الحجاجية التي نتناولها في إسناد مواقفنا وآراءنا التي نتقدم بها في الحوارات العامة والعلوم الاجتماعية، وإن كان يجيب عنه بامتياز إذا ما وضعنا في الاعتبار الاستدلالات الاستنتاجية كالبراهين الرياضية في كافة فروع الرياضيات والبرمجيات الرقمية المتعلقة بعلوم الحاسوب وتقنية المعلومات. هذا القصور البادي في المنطق الصوري في قدرته على تمليكنا أدوات منهجية لتحليل وتقييم الاستدلالات الحجاجية هو العامل الذي أسس بشكل رئيس للمنطق اللاصوري Informal Logic كفرع حديث من المنطق يريد أن يجيب على سؤال ما هو مقبول ومعقول ومنقول في الاستدلالات الحجاجية التي نتبادلها في حياتنا اليومية وذلك دون ردها لأشكالها الصورية وتحويل أخبارها إلى رموز ولهذا سمي لا صورياً ، ومحاولة لاستيعاب طبيعتها الخلافية والجدلية. فتأسس هذا المنطق في نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي من جملة من فلاسفة كنديين أو ما يمكن تسميته دائرة ويندسور على رأسهم رالف جونسونRalph Johnson وأنتوني بلير Anthony Blair كمنطق للحجاجArgumentation وليس منطق للاستنتاج Inference، وذلك لبيان أوجه المقبولية والمنطقية والمعقولية في بنية المقدمات والنتائج الحجاجية التي تظهر في المواقف الخلافية بغرض الإقناع المنطقي وبافتراض وجود آخر مخالف، وليس دراسة بنية المقدمات والنتائج الاستنتاجية التي تهدف لاستنتاج أخبار صحيحة من مقدمات صحيحة دون افتراض آخر مخالف. حيث يقول جونسون نحن نريد توليد منطق يلبي أشواق الطلاب وعلى قدر توقعاتهم وتمكنهم من امتلاك قدرة على بيان الكلام المقبول والمعقول دون إدراجهم في منطق ذو طابع رياضي رمزي بعيد تمام البعد عن القضايا التي يناقشوها في حياتهم الاجتماعية والسياسية الاقتصادية.
س : يبدو أن حديثك عن التصور الأول لكلمة منطق قدم لنا تاريخ المنطق بشكل عام بشقيه الصوري واللاصوري، لكن ماذا عن التصور الثاني والمتعلق بما يتبادر لنا من أن دراسة المنطق تعني دراسة المغالطات المنطقية التي هي العادات الخاطئة التي نمارسها في النقاش؟
ج : هذا المفهوم عن المنطق يتماشى إلى درجة كبيرة مع المنطق اللاصوري، فهذا أحد الجوانب التي اهتمت بها حركة المنطق اللاصوري الحديثة، وهو دراسة المغالطات المنطقية وتمليك الدارس القدرة على رصدها في الحجاج الذي يُمارس في الحوارات العامة، فهو أحد أهم مباحث المنطق اللاصوري ولكنها لا تعبر عن كل مجال دراسته، فالمنطق اللاصوري يهتم بتمليكنا أدوات كثيرة متعلقة بتحليل الحجاج وتقييمه بأكثر من بيان المغالطات المنطقية. لكن، للأسف، ساد فهم أن جل مجال المنطق اللاصوري هو دراسة المغالطات المنطقية، وهذا اختزال كبير جداً للدور الذي يريد هذا المنطق أن يلعبه فيما يتعلق بالحجاج؛ دور كان أحد أهم أهداف كتاب التفكير النقدي؛ مدخل في طبيعة المحاجة وأنواعها، أبرزه للقارئ العربي. فالمنطق اللاصوري نشأ ليملكنا أساسا أدوات تعيننا على التفكير نقدياً في مواقفنا الخاصة ومواقف الآخرين وأراءهم. ومفهوم النقد هنا يعني امتلاك أدوات تمكننا من تمييز ما هو حجاجي وما هو ليس بحجاجي أولا، وتحليل الحجاج من حيث عناصره ولغته وسياقه ثانيا، وأخيرا تمليكنا المقدرة على تقييمه؛ جزء من هذه القدرة على التقييم هو القدرة على رصد المغالطات المنطقية. فكلمة النقد هنا لا تُفيد الانتقاد اظهار العيوب أو المثالب وإنما تفيد مجمل القدرة على تحليل وتقييم الادعاءات أو الحجاج.
س : فماذا عن التصور الثالث، وهو تصور المنطق على أنه هو ذلك العلم المعقد الذي يدرَّس في الجامعات يمكن الانسان من التفكير بطريقة صحيحة ويجنبه من الوقوع في الخطأ؟
ج : كما قلنا في أول حديثنا أن المنطق الصوري هو مبحث فيه درجة عالية من التعقيد ويشبه الرياضيات في طبيعته إلى حد كبير، وهو في نسخته الرياضية الحديثة والتي تدرس في المقررات الجامعية بات مرتبطاً جداً بعلوم الحاسوب وتقنية المعلومات. وهذا التصور بهذه الطريقة، وبالذات عندما نقول منهج يمكن الإنسان من التفكير بطريقة (صحيحة) و(يعصم) الذهن من الوقوع في الخطأ، قريب لبعض ما شاع عن المنطق الصوري وإن كان هو تصور مشكل بدرجة من الدرجات. فهذا التصور قد يكون سليماً باعتبار أن المنطق الصوري يمكننا من التعرف بطريقة على (صور) الاستدلالات الاستنتاجية الصحيحة التي تستطيع أن تنتج نتائجها بصورة صحيحة إذا صحت مقدماتها. ففي هذا الشأن المنطق الصوري مثلا ملك المبرمجين أدوات غاية في الدقة والصرامة الرياضية بحيث يندر جداً أن تقع الاستدلالات الاستنتاجية في البرمجيات الرقمية في الخطأ.
لكن، وكما سبق أن قلنا، أذهاننا كبشر لا تتعامل مع الأفكار والآراء والمعتقدات بهذه الصرامة الرياضية كما هو الحال في الحواسب الآلية التي تشتغل بالمنطق الرياضي، فالغالب الأعم من البنيات الحجاجية المكونة من مقدمات ونتائج والتي نكون بها القناعات ونتفاعل بها مع المعلومات ونحدد جرائها الأهداف ونتخذ بناء عليها القرارات ونتبادلها مع الآخرين في محل الخلاف، هي بنيات يصعب التعامل معها صوريا أو رمزيا، وبالتالي، يصعب صياغتها في (صور) استنتاجية (لا تقبل الخطأ). ففي طبيعة الحجاج بين البشر لا توجد أدوات صارمة ترشدنا إلى أن رأي عدنان هو الصحيح ورأي عمرو هو الخطأ.
لكن المنطق اللاصوري، في هذا المضمار، يحاول تمليكنا أدوات منهجية نستطيع أن نقول بها، في موقف بعينه مثلا، أن رأي عدنان أفضل من رأي عمرو بنآءاً على عمليات تحليلية وتقييمية محددة وفي سياق محدد. وفي الحقيقة يصعب جدا أن يُتوفر على مبحث منطقي يعصم أذهاننا من الوقوع في الخطأ، ولكن حسبنا أن نقول أن هناك منهج يسمى المنطق اللاصوري يملكنا أدوات منهجية ربما تفادينا الوقوع في بعض الأخطاء الشائعة فيما يتعلق بالاستدلالات الحجاجية كما وتمكننا من التعرف على أوجه القصور في الادعاءات.
س : إذاً من إجابتك يتضح أن المنطق مجال متسع، فما هو موضوع كتابك من بين ذلك؟
ج : الكتاب جاء ضمن سلسلة أدوات إعداد قادة النهضة للدكتور جاسم سلطان، وهي سلسلة تهدف للإسهام في تمليك الشباب في المنطقة العربية والإسلامية مداخل معرفية يعتبرها المشروع أساسية للتحسين من اتخاذ القرارات تجاه واقع هذه المجتمعات. فالسلسلة تهدف لتمليك الشباب الناطق بالعربية مداخل أولية للعلوم الاجتماعية والإنسانية كالاقتصاد والسياسية والجيوبوليتك والتفكير الاستراتيجي والإدارة والتاريخ والفلسفة والمنطق ومناهج العلوم وغيرها. وهي معارف، في نظر صاحب مشروع النهضة، يضر الجهل بها حينما يتعلق الأمر بصناعة واتخاذ وتنفيذ القرارات الهادفة لتغيير الواقع. والمشروع يقدم هذه المعارف في شكل دورة تدريبية من أربع حزم وفي شكل كتب مدخلية ميسرة لهذه المعارف صدر منها اثني عشر كتاب ويتوقع اكتمالها لتبلغ ما يفوق العشرين كتاب. كتاب: التفكير النقدي؛ مدخل في طبيعة المحاجة وأنواعها، جاء باعتباره الكتاب الثاني عشر ضمن هذه السلسلة وهو مهتم أساسا بتمليك طالب النهضة في البلاد الناطقة بالعربية أداة معرفية أولية نقدر أنه يضر الجهل بها فيما يتعلق بالمنطق. ولما كان الغرض أساسا هو إكساب الشباب في المنطقة أداة تمكنهم من التعامل بمنهجية مع الحجاج العام في الفضاءات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية المفتوحة والمتعددة في الصحف والمجلات والتغريدات وعلى الفيسبوك والقنوات الفضائية، كان هذا الكتاب مدخلا للمنطق اللاصوري باعتباره المبحث الذي جند نفسه لإكساب دارسه هذه الأداة فهو صرخة جاءت للمناداة بمنطق عملي يستهدف صنوف الحجاج الذي يحيط بنا في اليوم والليلة.
من هنا كان محور الكتاب مفهوم يسمى (المحاجة) وهي بمعنى بسيط جداً: قطعة تتكون من (مقدمات) و(نتيجة) دائماً ما نتناولها في الكلام بغرض الإقناع بموقف ما أو التبرير المنطقي له. بمعنى، إذا كنت أريد إقناعك، مثلا، بأنه من الممكن حدوث نهضة في المجتمعات العربية أو أن داعش صناعة استخباراتية أو أن النقاب ليس واجباً، فهنا، عندما أريد أن أدعم موقفي هذا في محل خلاف، فسوف أتقدم بمجموعة من الأسباب المنطقية الداعمة لهذا الموقف في شكل (مقدمات) أرى أنها مقبولة وأنها تدلل على (النتيجة). وهكذا، سنلحظ أن المحاجة قطعة لغوية متوفرة بكثرة في حواراتنا اليومية وهي فاعلة جدا في تفاعلنا مع المعلومات رفضا وقبولا وتكويننا للقناعات وصناعتنا للأهداف واتخاذنا للقرارات ومحاولاتنا لإقناع الأخرين ومحاولاتهم لإقناعنا. فهي قطعة محورية جدا في تكويننا الفكري وفي دور أفعالنا الفكرية تجاه كل ما نسمع ونقرأ وبالذات حين تتناول موضوعات محل خلاف. والمنطق اللاصوري، وبالتالي الكتاب بوصفه تقديما له، بشكل عام، يهتم بثلاث أو أربع أمور فقط وهي تزويد دارسه أدوات منهجية متعلقة أولا بـ تمييز المحاجة كقطعة من الكلام وبيان اختلافها من سائر القطع الأخرى كالسرد والتوصيف والتفسير وغيرها. وثانيا الأدوات المتعلقة بـ تحليل المحاجة وذلك باستجلاء وتصنيف عناصرها من المقدمات والنتائج وتصنيف طبيعة الادعاءات المقدمات منها والنتائج من حيث هي آراء أو وقائع من جهة وما إذا كانت وصفية أم معيارية أم مفاهيمية من جهة أخرى، ومن ثم يشمل التحليل تصنيف بينة المحاجة، وذلك لأن بنيات المحاجات تأخذ أشكال متنوعة، وكذلك يشمل التحليل تصنيف المنهجية الاستدلالية للمحاجات، فبعض المحاجات استنباطية وبعضها استقرائية وبعضها تمثيلية وبعضها إفضائية، وأيضا أحد أهم مباحث التحليل هو تحليل المشاكل المتعلقة باستخدام اللغة في الحجاج كالعاطفة وعدم الوضوح. ثالثا، يهتم الكتاب كمدخل للمنطق اللاصوري بتزويد الدارس أدوات متعلقة بمبحث تقييم المحاجة، وذلك من خلال التقديم لمباحث التقييم الثلاثة وهي: المقبولية والدلالة والكفاية، والتقديم كذلك للمفاهيم والمغالطات المنطقية المتعلقة بكل مبحث. وأخيرا يهتم الكتاب باستصحاب كل المفاهيم المتعلقة بالتمييز والتحليل والتقييم في تركيب المحاجة، وذلك عندما نريد تقديم محاجتنا الخاصة لتدعيم مواقفنا في محل خلاف. فبشكل عام هذا هو موضوع الكتاب وهمه الأساس هو تمليك الدارس ما نعتقد أنه يضر الجهل به في التعامل مع الحجاج.
س : إذاً، بعد فراغنا من موضوع الكتاب من بين فروع المنطق، وقبل الخوض في موضوعاته بالتفصيل، حدثنا قليلاً عن كواليس تأليفه ورحلتك معه؟
ج : لما حضر الدكتور جاسم سلطان لتدريبنا أنا ومجموعة من الشباب في السودان في العام 2010 م، أعجب ببعض الكتابات التي كنت قد كتبتها في الفكر الإسلامي ودربتها في دورة مدتها 14 ساعة تدريبية وعنوانها: (لماذا خلقنا الله؟ تكليف الإنسان بين الخلافة، العبادة، الإحسان، القسط والشهادة على الناس) وهي دورة تتحدث عن هذ الكليات الخمس ككليات أرى أنها تشكل تكليف الإنسان في المنظور الإسلامي بناء على تفسيري الخاص لبعض الآيات القرآنية. المهم، أعجب دكتور جاسم سلطان بمحتوى المادة وقرر أن يمنحني الفرصة للتوسع فيه أكثر بشكل خاص وللتوسع في التأليف والكتابة في الفكر الإسلامي بشكل عام. وعندما ذهبت إلى قطر وفي اليوم الذي التقيت فيه الدكتور جاسم سلطان بدأت الأمور تأخذ منحا آخر. فبمجرد ما إن التقيته وسألته عن سير الكتب التي يقوم بتأليفها، قال لي: إنني أشتغل هذه الأيام على كتاب المنطق وأتمنى أجد فيه معين. وكانت أمامه ثلاثة كتب ناولني إيّاها وقال لي إبدا معي في صياغة مادة أولية من هذه الكتب تكون مسودة للكتاب. وفي الحقيقة منذ أن غادرت الخرطوم وأنا كنت كلي أمل أن يضع الدكتور على كاهلي مهمة بحثية ثقيلة تفتحني على عالم البحث والكتابة، ولكن رغم ذلك لم أكن سعيدا بهذه المهمة، وذلك لسببيَن:
الأول: أنه من ضمن عديد المباحث التي يقدمها الدكتور في تدريب مشروع النهضة كان (المنطق) في تلك اللحظة أقلها سؤالاً بالنسبة إلي، وذلك بالرغم من إدراكي لفائدته، حيث كنت أتمنى أن تكون المهمة لها علاقة بالفكر الإسلامي أو الفلسفة أو حتى المباحث المتعلقة بالاقتصاد والسياسة في المشروع.
والسبب الثاني: متعلق بالكتاب الذي كان يرشدنا الدكتور للاستزادة منه في المنطق، وهو كتاب مكتوب بالعربية ويعتبر مدخلا للمنطق الصوري القديم. فأذكر أنه ما إن قرأته وزملائي في المشروع في السودان، كنا نسأل: ماهو الأثر المباشر لدراسة هذا الكتاب في تدعيم أدواتنا المنهجية للتعامل بصورة منطقية مع الحجاج الذي كنا نناقشه في تلك الفترة مع كافة الشباب في السودان والمنطقة العربية؟ حيث تجد نفسك أخذت مجموعة من المفاهيم المفيدة كمفاهيم لكن بدون دراية عن كيفية التطبيق! بدون قدرة على تصور منهج عملي لتحليل وتقييم المواقف المختلفة التي تطرح في القضايا الفكرية الساخنة التي كنا نناقشها تلك الأيام.
فعندما أعطاني دكتور جاسم الكتاب كمرجع أساسي ضمن ثلاثة كتب، أصبت بالإحباط نفسه مرة أخرى وذلك لأني أشعر بقوة بأن هناك شيء ما ليس موجوداً، فبدأت البحث عنه. وأذكر أني صارحت الدكتور بالقصور العملي لهذا الكتاب وأنه لا يملِّك الإنسان الأداة المطلوبة، وافقني جداً، وقال لي: لماذا لا تبدأ البحث تحت عنوان المنطق اللاصوري أو التفكير النقدي؟ ومن هنا بدأت الرحلة!
الكاتب عمرو صالح يس