علي عبدالرحيم..مشروع مفكر واعد! (2)

* كرَّسنا الحلقة الأولى من هذه الإضاءة، لنحدِّث عن البيئة التي نشأ فيها (علي عبدالرحيم) ابن بروفسير عبد الرحيم علي القيادي الإسلامي المعروف، وفصلنا في بعض ما نعرفه من سيرة البروفسير لنقف على طبيعة المحيط الذي ربا فيه علي طفلا، صبياً، ثم شاباً يتلمس طريقه الخاص وسط ذلك المحيط والأجواء الاسلاموية، التي كانت بعض قدره وليس اختياره بحال.. شأنه في ذلك شأن الإنسان منذ طفولة البشرية الأولى، حين بدأ الـتأمل والتفكر في ظواهر الكون من حوله، محاولاً فهم وتفسير معني الوجود ودلالاته و مآلاته، حتى قاده ذاك التأمل والتفكر – بدافع الخوف أو الحيرة – باكراً إلى مرافئ الدين و الفلسفة، في سعيه لفك (شفرة الحكمة) الكامنة وراء هذا الوجود وسيرورته وصيرورته على هذا النحو الغامض المغلظ..حتى انتهى لأكثر من دين ونمط للتدين، وأكثر من نظرية فلسفية.

* في مقاله الذي هو موضوعنا اليوم، والذي جاء تحت عنوان (سقوط الفكرة)، والذي كتبه على وقع الاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ التاسع عشر من ديسمبر من العام المنصرم، يتجاوز الأستاذ علي تفاصيل الوقائع اليومية لتلك الاحتجاجات، ليغوص في دلالاتها النهائية، إذا ما كتب لها النجاح عاجلاً أو آجلاً، و أثر ذلك على (الفكرة) نفسها- فكرة الإسلام السياسي- ومدى نجاعتها وقدرتها على تأسيس نموذج قادر على التعايش والتواؤم مع خصائص العصر الحديث (عصر ما بعد الصناعة).. نموذجاً لدولة مسلمين حضاريين، قادرين على إثبات أن دينهم، بما فيه من قيم عليا وماكنيزمات إلهام صالح لمواكبة كل عصر وزمان، مهما تعددت وتشعبت أقانيم الحياة وسبل كسب العيش.. ذلك هو جوهر النقد اللاذع والحارق الذي اختص به الكاتب منظومة الإسلام السياسي (محلياً و دولياً) في تعاطيها مع واقع العصر ومطلوباته، وكيف أن سقوط أنظمتها التي أقامتها على عجل، بمنطلقات فهمها الماضوي العتيق للإسلام سيقود بالتداعي إلى (سقوط الفكرة)، فكرة الإسلام السياسي، التي وضعها لها شيوخها المؤسسون (حسن البنا، أبو الأعلى المودودي، سيد قطب، و من تبعهم بإمعان كالشيخ الترابي و راشد الغنوشي).

* يصوب الأستاذ علي عبدالرحيم نقده الموضوعي العميق إلى تجربة الإنقاذ في الحكم، ومحاولتها (تغيير المجتمع السوداني) والتي يرى أنها انتهت إلى الفشل.. وفي هذا الصدد يشير إلى محاولة التفافهم على ذلك الفشل، عبر العمل لتسويق (أمثلة واهية، كزيادة عدد المصلين في المساجد أو الزيادة في حجاب المرأة) ويشرح: ان الاستدلال هنا خاطئ ابتداءً، كون الصحوة الدينية المتجلية في زيادة التمسك ببعض المظاهر الدينية (ظاهرة عالمية) للمسلمين، وليست حصراً على السودان لتدعى الإنقاذ فضلاً فيها..

* ويبدو أن استخلاص علي صحيحاً على المستوى المحلي، لكن كان عليه أن يلاحظ أن (عالمية هذه الصحوة) هي أيضا من كسب الحركة الاسلامية، والتنظيم الدولى للإخوان الذي امتد بنشاطه الفعال إلى الغرب الأوروبي والأمريكي، كما يرصد ذلك الباحث الكندي الاستقصائي إين جونسون في كتابه المهم (مسجد في ميونيخ) الموثِّق لحراك الإسلام الساسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية..حراك كثيف ومؤثر بغض النظر عن صدقية وعمق مظاهر التدين التي أنتجها بمقاييس (قيم الدين الحق و مكارم الأخلاق) التي أتت الرسالة الخاتمة لتتميمها.
* تلك القيم التي أشار اليها الكاتب وعددها واعتبرها معياراً تقاس عليه (الهداية): منها حب العمل، ونبذ العنصرية، وحب الإنفاق و العدالة والأمانة في المال العام والتقارب والتسامح بين الفرق والمذاهب..كما طرح عليٌ جملة من الأسئلة الحرجة و الإشكالات الجذرية في الفكرة المؤسِّسة: ما هو نموذج المجتمع المسلم الذي يسعى الإسلاميون لتحقيقه في هذا الزمن؟ ليتساءل في الختام عن أين مساهمتهم الفكرية لإحداث النهضة الشاملة للانسانية في القرن الحادي والعشرين؟ وفيم السعي إلى الحكم إن لم يملكوا نموذج المجتمع البديل؟ إلا أن يكون الحكم غاية في حد ذاته!
* المقال طويل.. لكن من أذكى وألطف الملاحظات التي رصدها عليٌ هي تلك المتعلقة برمزية (الكوز) في الثقافة الشعبية السودانية، التي سادت في العقود الثلاثة الأخيرة، وتجلت في نكات الناس وأغانيهم ونوادرهم، وباتت منقوشة في ذاكرة الأمة.. و (الكوز) كلقب للإخوان منسوبة، كما سمعت، إلى شيخ حسن البنا الذي قال يوماً (الدين بحر ونحن كيزانه).. فهذا الكوز نالت منه، بلحيتة وغرة صلاته تلك النوادر والحكايات، مثلما نالت في أوقات سابقة من صورة (الشيوعي) كملحد ومنحل ومخالف لقيم المجتمع السوداني، جراء الدعاية السياسية المضادة التي تصدرها الاسلاميون ذاتهم في مجرى صراعهم مع اليسار والعلمانية.. لكن علياً مع ذلك لم يقع ضحية غل أو شنآن يصرفه إلى التعميم المخل، فذهب إلى القول إن (الكيزان) هم

سودانيون قبل أن يكونوا إخوان، و في هذا هم خليط من الصالحين والفاسدين، ويستوي في هذا اليساريون والعلمانيون، و لكن اعتدنا أن نرى في من يتصدى للعمل العام النفعيين فقط .. وعسى أن يأتي اليوم الذي ينصلح فيه المناخ السياسي فتغدو فيه حرارة التنافس بين هذه التيارات طاقة للبناء لا للهدم.

* هذا بعض ما جاء في مقال علي المهم، و الذي مثل عندي تنبيهاً بأننا على وعد مع مفكر وكاتب مهم، سيلعب دوراً مرموقاً في ساحة الفكر السياسي و الثقافة العامة..وها نحن منتظرون.

اخرلحظه

Exit mobile version