طه النعمان :ليلة الأمير الأخيرة !

هذه اضاءة يعود تاريخ نشرها الى 29 يناير الماضي، أي الى قبل أسابيع ثلاثة من انطلاق الانتفاضة الشعبية الجزائرية الحالية.. المطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية، في بلاد المليون شهيد من أجل التحرير الذي تحقق في العام 1962 من ربقة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، لكن – للأسف – إن قادة تلك الثورة ورجالها اختلفوا حول كيفية إدارة الدولة الوطنية الوليدة، فانتصر الجناح السلطوي، لتبدأ مسيرة الانفراد بصناعة القرار، وليتسرب الخلل

الإداري الى مفاصل الحكم دون أي اعتبار لتضحيات الشعب، التي لم تبدأ مع (الثورة المنتصرة) .. والتي مهدت التربة لها وبذر بذورها رواد عظام كعبد القادر الجزائري، تجرعوا الهزائم العسكرية- المادية لكنها لم تنل من روحهم المعنوية وإصرارهم على المقاومة والصمود، لإيمانهم الراسخ، بأن النصر متحقق ولو طال الزمن.. إنه نص يستحق إعادة القراءة في أجواء الثورة المتفجرة الآن في الجزائر، والتي لا أحد يعرف هل سيكون حليقها النصر أم ستواجه مصيراً كذاك الذي واجهه القائد التاريخي الجزائري!

*****
<هي رواية كتبها بالفرنسية عبد القادر الجماعي ونقلها الى العربية ساسي حمام، انتهيت من قراءتها الاسبوع الماضي، رواية عن التاريخ..تاريخ المقاومة الشعبية الجزائرية بقيادة الثائر و الشاعر و المفكر الصوفي عبد القادر الجزائري، الذي قاتل الغزاة الفرنسيس دون هوادة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، دون أن يتيسر له النصر فانتهي الى الاستسلام والنفي، لكن ما يدهش في سيرة الرجل انه كان كبيرا وعظيما في كلا حالتي النصر والهزيمة، وهذا ما دعانا للاضاءة على قصة حياته الحافلة التي سطرتها الرواية.

< الرواية اعتمدت في جوهرها على التاريخ الحقيقي الموثق للاحداث من خلال تسجيل الحادثات و المعارك الحربية و الاتفاقيات و مواقيتها كما جرت فعلا، لكنها اعتمدت أيضا على المخيال الشعبي و الصور الذهنية للجزائريين و تفاعلهم مع الأحداث، اعتمادا على رواية الحكواتي الشعبي (بشير الوهراني)، ماقربها من أجواء تغريبة بني هلال التي كان للمغرب العربي – ومنه الجزائر- نصيب الأسد من الحكي..و ألحقها أيضا، ربما من دون قصد، بمناخات الواقعية السحرية التي تربع على عرشها الروائي اللاتيني الكبير حائز جائزة نوبل للآداب غبرائيل غارسيا ماركيز، مما أضفي على (ليلة الأمير الأخير) مزيجا محببا من التاريخانية المثوقة والرؤي الشعبية المستبطنة روح الثورة التي ستتفجر مرة أخرى لتحرر الجزائر.

< مساء 24 ديسمبر 1847 وقف المير عبد القادر وسط مجموعة من رفاقه وكان البرد قارصا والمطر منهمرا يترقب البارجة (السولون) التي رست في (جامع الغزوات)، ذلك المرفأ الصغير القريب من الحدزد المغربية.. لحظة حانت بعد 15 سنة من مقاومة الاستعمار الفرنسي، عرف خلاله الهزائم و الانتصارات ووقع عديد الاتفاقيات، وآخرها وثيقة الاستلام، اثر وعد فرنسي رسمي بتسفيره الى مع 76 من رفاقه الى الاسكندرية أو عكا في المشرق العربي.

كاتب الرواية، الذي شاءت الصدف أن يتطابق اسمه وهويته مع اسم الأمير وهويته، والذي ولد في ذات الموطن الصغير للأمير .. منطقة وهران غرب الجزائر.. وعرف مثله الغربة.. فقدم عبد القادر الجماعي صورة مشرقة ومشرفة للأمير عبد القادر بن محي الدين الجزائري، ليس كقائد عسكري و طني مقاوم فحسب، لكن بوصفه رجلاً عالماً متسامحاً رحيماً وحداثياً متفتحا عاشقا للكتب والقراءة و صوفياً متبحراً من تلاميذ الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي فتولى الإشراف على طباعة الجزء الأول من (الفتوحات المكية) بعد أن أقام بدمشق في ذات دار الشيخ.. وقد كان الأمير بحكم تلك الثقافة الموسوعية – وبرغم جهاده ضد الاستعمار وما تعرض له من نفي ومعاناة واخلاف للعهود من جانب المستعمر..كان من دعاة الحوار بين الحضارات في ذلك الوقت المبكر.. فالفرنسيون وعدوه بحسب اتفاقية الاستسلام بترحيله الى المشرق العربي.. و فاجأوه وهو في الباخرة بالتوجه غربا عبر المتوسط الى (طولون)..

حيث تعرض هناك ورفاقه للحبس في ظروف قاسية، قبل أن يخفف عنه (نابليون الثالث) شخصياً ويأمر بنقله وجماعته الى محبس أكثر راحة وإنسانية، عبارة عن قصر قديم، تمهيداً للسماح له بالتوجه شرقاً نحو مصر وبلاد الشام.. وقد كان، حيث توجه الى المشرق وزار حواضره موقظاً كل ملكاته في حب الإطلاع والتفاعل فتحول لكتلة نشاط دفاق.. ففي مدى عامين تعرف على الصحراء والبحر الأحمر والنيل والقدس وبغداد والقاهرة ودمشق، حيث انضم الى حلقة الشيخ النقشبندي، كذلك زار الاسكندرية، التي وعده ( دوق دوما) بن الملك الفرنسي بأن تكون وجهة منفاه.. وفي بغداد زار ضريح عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية، وفي مصر استقبله الباشا الكبير محمد علي، واهتم بجهوده لتحديث الدولة المصرية.

<في كل الأحوال فإن البذرة التي غرسها عبد القادر ظلت تنمو وتتطور في ضمير الشعب الجزائري حتى قوي عودها واستوت على سوقها، وتفجرت ثورة في وجه المحتل.. أفشلت مخططاته الاستيطانية وجهوده لطمس الهوية الوطنية الجزائرية عبر الإلحاق الجغرافي والثقافي.. حتى عادت الجزائر حرة مستقلة بحلول عام 1962م..(ليلة الأمير الأخير) رواية جديرة بالقراءة والاهتمام!

 

اخر لظه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.