آدم.. “فكي” في مهمة خاصة لطرد “شيطان” دارفور

حثّ الرئيس المنتخب لولاية جديدة، عمر البشير، أهل دارفور بالعمل الجدي لطرد الشيطان من بين ظهرانيهم، بحسبان أن تدخلاته الضارة – أي الشيطان – أفضت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي بدارفور المعروفة بأنها حاضنة لخلاوى القرآن. وتأسيساً على تلك المقولة أرسل البشير رسله إلى دارفور، وعلى رأسهم “آدم الفكي”، عله يطرد “شيطان دارفور”.

ومع أن الرياضيين يتشاءمون بالرقم 13 ويعتبرونه فألاً سيئاً وجالباً لسوء الطالع والنحس؛ عينّت الحكومة ذات الصبغة الإسلامية، آدم الفكي محمد الطيب، والياً بالرقم 13 على جنوب دارفور، عينته – على ما يبدو – لكسر تابوه التطيُّر، ولكسح المشكلات التي تعترض مسار الولاية ونسفها في اليم.

واليوم يعيدنا للوالي ومهندس المياه الذي توسط بنادي الشرطة قبل يومين، سبعة من الولاة السابقين للولاية الثانية سكانياً، ولكن هؤلاء السبعة، لم يمكث أحسنهم حظاً في أرض جنوب دارفور لأكثر من ثلاثة أعوام فقط. وذلك يعني أن على الوالي آدم الفكي – حال أراد الاستمرار لفترة أطول – إجادة السباحة في بحر ولاية متلاطمة الأمواج.. أمواجٌ ما إن تهدأ، حتى تثور لتجرف أمامها الأخضر واليابس، بما في ذلك الوالي الذي تلفظه بعيدًا عن مبنى أمانة الحكومة.

وما بين الرقم 13 وبحر الولاية الهادر، يأمل حفيد من ساندوا الإمام المهدي قبل قرن وثلاثة عقود في “قدير”، أن يُظهر قدراته ويترك بصمته، على جدار ولاية خرج منها خليفة المهدي، عبد الله التعايشي.

مصابيح مضيئة

بخلاف مميزات شخصية آدم الفكي التي تميل الى التشدد في الحفاظ على المال العام فإنه يتولى شأن أمر جنوب دارفور وهو متحرر من القيود القبلية والجهوية التي كبلت من سبقوه على المنصب من أبناء الولاية، ولن يكون في موضع شد وجذب لإرضاء عشيرته.

ولكن مع كل تلك الصفات الرابضة في كرموسومات الفكي، فإن طريقه سيكون محفوفاً بالأشواك إذا لم يقف على مسافة واحدة من كل مكونات الولاية السياسية والاجتماعية، وهنا ربما تلعب شخصيته المتوازنة التي تجيد الاستماع دوراً في رتق النسيج الاجتماعي الذي وهن بجنوب دارفور بداعي الصراعات القبلية والسياسية.

مصابيح مظلمة

وإذا كان آدم الفكي يتصف بالنزاهة والتوازن في تعامله فإن الجانب الآخر من شخصيته يحمل بين طياته مخاطر قد تؤثر على مسيرته سلباً وتتمثل في رجوعه الى مركزية الحزب والدولة في كل صغيرة وكبيرة، وهذا الأمر بنظر البعض يمثل ضعفاً وعدم قدرة على اتخاذ القرارات، كما يرهن مصير الولاية في يد المركز البعيد تماماً عن مجريات جنوب دارفور، كما أن وجود الفكي بالعاصمة في أوقات كثيرة من فترة حكمه بجنوب كردفان أمر سيخصم منه الكثير إذ حمل جيناته إلى الأرض الدارفورية والتي يتطلب جنوبها والياً يتواجد فيها ولا يغادرها بحكم قضاياها المتشابكة وأحداثها التي تندلع دون سابق إنذار.

صانع ألعاب

خطورة إدارة ولاية جنوب دارفور تكمن في أن مفاتيحها المؤثرة تربض بالخرطوم، لكن إن تمكن الفكي من اقناع أصحاب المفاتيح بجديته وحياديته وصفاته الكثيرة فيمكنه وقتها إدارة هذه المفاتيح لتشغيل ماكينة الولاية في الدرب الصحيح، لكن إن حاد عن الطريق فإن الكثير من الأبواب ربما أوصدت في وجهه خاصة تلك الموجودة بالمركز حيث تربض موارد المال وخزائنه.

عموماً، فإنه حتى لو حاول الفكي امتلاك قراره كاملاً فإن شخصيات في الولاية بالخرطوم وأبرزهم د. الحاج آدم، وعلي محمود عبد الرسول، والسميح الصديق، وصلاح علي الغالي، وحتى د. علي الحاج المتواجد في ألمانيا، تظل شخصيات مؤثرة سلباً وإيجاباً على مسار حكمه.

خميرة عكننة

لن يكون طريق الفكي مفروشا بالورود والرياحين، فالأشواك لن تظهر له وسط الزهور في أيامه الأولى بالحكم، ولكن بعد تعاقب الأيام حتام سيصطدم بما يثير حفيظته، وقد يكون الصدام بسبب شخصيات عجنت بماء الجدل أو بقضايا من شاكلة فرض الأمن خاصة بنيالا والذي يمثل عبئاً ثقيلاً على كاهل المواطن وخزانة الولاية. فإيقاف الدعم أو تأخره يعني تدهور الأوضاع الأمنية بصورة تأتي خصماً على التنمية والخدمات، وهذه المعادلة تحتاج إلى تعامل متوازن.

قضية الكهرباء والمياه بنيالا قد تصدّع رأس الوالي الجديد، وجدران سلطانه كذلك، بحسبان أن المشكل ظلت تراوح مكانها منذ عقود دون حل وسط احتجاجات وغضب متواصلين من المواطنين الذين سيضعون الفكي تحت الضغط حتى يتمكن من إيجاد حلول نهائية لهذه القضية.

وبخلاف ذلك فإنه مطالب ببسط الأمن في المحليات والاهتمام بسفلتة الطرق الرابطة ما بين أجزاء الولاية وحاضرتها نيالا، ومسألة التفلت الأمني ستكون خمائر عكننة للفكي أسوة بالولاة المتعاقبين على جنوب دارفور.

الجوكر

قد تكون علاقة آدم الفكي المتميزة مع المركز كرتاً رابحاً يتعين عليه الاستعانة به لتخطي العقبات والحواجز التي ستظهر في طريقه، خاصة على صعيد الخدمات والتنمية. فإذا فتح المركز خزائنه للرجل يستطيع أن يحقق إنجازات كبيرة في فترته الأولى لتمهد له الطريق ليعمل بعيداً عن الضغوط، وأيضاً قد يمثل إقناعه للمجتمع بحياديته واهتمامه بقضاياه وحفاظه على المال العام في ولاية تتحدث مجالسها عن شبهات الفساد كثيراً؛ قد تمثل كل ذلك كروتاً تعينه في مهمته القادمة.

الدولة العميقة

بجنوب دارفور – دون مواربة – يدور صراع مكتوم بين أبرز مكونات الولاية بغية الامساك بملفاتها السياسية والتنفيذية. فكل طرف يسعى للتمكين والسيطرة على مفاصل مداخل السلطة والمال، وهو ما يصطلح عليه بـ “الدولة العميقة” الناشئة في قلب مدينة يُشاع أن خدماتها تتوزع على أساس قبلي.

وديمغرافياً، يوجد تياران اجتماعيان مؤثران في تحديد بوصلة الولاة، التيار الأول يضم أربع قبائل ويطلق عليه اختصارا اسم” هبت” وهو مكون من الهبانية، التعايشة، والبني هلبة، أما التيار الثاني فيطلق عليه اختصارًا اسم “ستقف” ويتكون من السلامات، الفلاتة، القمر والترجم. والصراع الناعم بين التيارين وتغلغلهما في صناعة القرار والخدمة المدنية يمثلان دولة عميقة قد تضر بمسيرة الوالي الجديد إذا انحاز لأحدهما أو تجاهلهما بالكلية.

مراكز القوى

بولاية جنوب دارفور توجد العديد من مراكز القوى يتوجب على الوالي آدم الفكي أن يعمل لها ألف حساب، وأن يجيد التعامل معها جيدًا، فهي لن تتوانى في إزاحته عن منصبه إذا تأثرت مصالحها. فبخلاف رجال الإدارة الأهلية النافذين وشيوخ معسكرات النازحين وقادة القوات شبه النظامية فإن هناك شخصيات سياسية خاصة داخل المؤتمر الوطني ظلت تمثل مراكز قوى مؤثرة بل وكانت سبباً في نجاح ولاة فيما تسببت في إفشال آخرين، ولعلّ أبرز هذه القيادات محمد عبد الرحمن مدلل، إبرهيم حسين أتيم، سرور، إيدام عبد الرحمن، عثمان التوم، وعليان وعلي بادي.

ديباجة

الأسبوع الحالي، كانت المرة الأولى التي يطأ فيها آدم الفكي أراضي ولاية جنوب دارفور، هذا وإن كان جوازه مختوماً بـ 17 تأشيرة دخول لدول موزعة بين مختلف قارات العالم.

وما حدث في نيالا أمس بساحة الشهيد السُحيني، كان استقبالا حظي به بالوالي الجديد، حد أن استبانت الدهشة من قسمات وخلجات وجهه.. دهشةٌ جعلت – بكل تأكيد – أشياء عدة تدور – وقتذاك – في خلد الفكي بسبب الاستقبال، بعضُها سعادة، ومعظمُها مخاوفٌ تتصل بعظم المسؤولية المُلقاة على عاتقه، مع أنه قادم من ولاية لا تختلف كثيراً في تقاطعاتها وظروفها الأمنية وواقع خدماتها وتنميتها عن جنوب دارفور.

وحين شقّ موكب الوالي وسط نيالا، حمل على متنه سيارات الدفع الرباعي الموكب، والدهشة. فمسافة الخمسة كيلومترات من المطار وصولاً الى موقع الاحتفال منحت الفكي انطباعاً عن نيالا المدينة التي يقطنها مليون و500 ألف نسمة، وتجمع ما بين حداثة المعمار في وسطها وبؤس الحال في أطرافها، حيث تتمدد عشرة معسكرات يقطنها حوالي 450 ألف مواطن أجبرتهم الحرب على مبارحة أرض الأجداد ويحدوهم الأمل بآدم ليكون “فكي” صالح يعيد الابتسامة الى وجوههم المنهكة من الحرب وتداعياتها، ويسعد دواخلهم المرهقة. ذات الأمنيات والآمال يحملها مواطنو 21 محلية في أن يعيد حفيد ملوك وسلاطين قدير حياتهم الى ما كانت عليه قبل عقدين عندما كانت جنوب دارفور آمنة ومستقرة .

جذور راسخة

كان مؤسس دولة الإمارات العربية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يتبع منهجاً ثابتاً في اختيار الطاقم الوزاري يرتكز على تكليف الكفاءات التي تتمتع بإمكانيات فكرية ومالية في ذات الوقت، وفلسفته في هذا الأمر، تعود الى أن من يمتلك مالاً لا يمد يده إلى المال العام.

بإسقاط هذه النظرية على آدم الفكي فإنها تنطبق عليه لجهة أنه ينحدر من أسرة اشتهرت بالإجادة في التجارة والزراعة وامتلاك الثروة الحيوانية، كما عرفت أيضاً بالعراقة فوالدته الحاجة حواء بت إبراهيم سليلة ناظر الكواهلة بجنوب كردفان الناظر قدوم الكبير، ووالده الحاج الفكي محمد الطيب العشا أحد أعيان الكواهلة وحكمائهم، وقد عاصر الإمام المهدي، ورغم بلوغه المائة عام إلّا أنه مايزال في كامل صحته وعافيته.

آدم الفكي المولود في العام 1955 بمنطقة “كالوقي”، يعد أحد خريجي مدرسة خور طقت العريقة، ويعتبر أحد اثرياء البلاد وتنحصر أعماله التجارية في التعدين عن الذهب والزراعة والثروة الحيوانية. ومع الأريحية في الوضع المالي فإن النزاهة كانت عنواناً بارزاً في مسيرة الرجل، وهذا من أهم العوامل التي تخلق لأي مسؤول أرضية جيدة للعمل بعيدًا عن شبهات واتهامات الفساد.

مسيرة عملية حافلة

يُصنّف آدم الفكي الحائز على شهادة هندسة المياه من جامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية في العام 1983، بأنه من الكوادر الإسلامية المشهود لها بالالتزام للفكرة والعمل على تطبيقها واقعاً، وقد لعبت نشأته الدينية دوراً بارزاً في ميوله المبكرة الى التيار الاسلامي في مدرسة خور طقت. والمتتبع لمشواره العملي والسياسي يلحظ تدرجه من أسفل درجات السلم الى قمته فهو عمل مهندساً بالهيئة العامة للأبحاث الجيلوجية، وقضى أكثر من عقد من سنوات عمره بمنظمة الدعوة الإسلامية، وهي الفترة التي ظل يؤكد أنه استفاد منها كثيراً، وأنها أسهمت في اكتسابه الكثير من الخبرات في كيفية التعامل مع شتى المواقف بالإضافة الى التمتع بالبعد الإنساني.

يعتبر آدم الفكي أول أمين للجبهة الإسلامية بجنوب كردفان، ثم رئيساً لشوراها، وتعد حقبة إدارته لصندوق السلام بكردفان الكبرى أخصب فتراته العملية، إذ قدمته الى المجتمع الكردفاني بوصفه أحد الكوادر التي تجيد أداء المهام المتعددة.

وفي مسبحة المناصب، تتنظم حبات أخرى في سيرة والي جنوب دارفور الحالي، منها كونه نائباً لرئيس المؤتمر الوطني بجنوب كردفان، ورئيساً للجان الشعبية، ثم معتمداً لمحلية قدير وصولاً للعام 2013 الذي تبوأ خلاله منصب والي ولاية جنوب كردفان في أصعب وأحلك ظروفها.

برود وتسامح

يختلف آدم الفكي عن كثير من الولاة، وربما كانت لخلفيته الدينية والصوفية أثر كبير في جعل شخصيته تميل الى التسامح والابتعاد قدر الإمكان عن التكتلات والخلافات، فسجلت له الكثير من المواقف عندما كان والياً لجنوب كردفان توضح إعماله مبدأ التسامح مع الخصوم، فقد سجّل زيارات لمن ترشحوا ضده في انتخابات سبتمبر، الأمر الذي أسهم في تخفيف حدة الاحتقان الذي خلفته الانتخابات.

ومن صفات والد الأطباء الأربعة، أنه يعالج مشكلاته ببرود يحسده عليه “الإنجليز” كما يشير المقربون منه.. برودٌ يمتد إلى ملامحه التي لا تعكس أي نوع من علامات الانفعال والتوتر، وهذا ما أكسبه صفة الإجادة في إدارة الأزمات واتخاذ القرارات بتأنٍ وحكمة. وضح ذلك من خلال الهجمات المتكررة لقوات الحركة الشعبية على كادوقلي، إذ كان يتعامل مع الأمر بحرفية حتى لا تؤثر الهجمات على معنويات المواطنين.

خصال دارفورية

انحدار آدم الفكي من أسرة اشتهرت بالكرم “والباب الفاتح” أثّر في تشكيل شخصيته فداره بمدينة الأبيض – قبل أن يصبح والياً وبعدها – مشرعة الأبواب أمام الجميع، وهذه الخاصية مطلوبة بشدة في دارفور، لأن ملوكها وحكامها من لدن عهد السلطان علي دينار وصولاً الى كبر وجار النبي اشتهروا بالكرم والحفاوة في استقبال الضيوف وقضاء حوائج الناس. ومن يزُر دارفور يلحظ بوضوح أن منازل الولاة لا تغلق أبوابها أمام العامة رغم الحراسات الأمنية المشددة الموضوعة أمامها.

وبالتالي يمكن القول إن الفكي يمتلك أهم مفتاح يدلف به الى قلوب الدارفوريين الذين يبغضون الوالي البخيل والشحيح، أضف إلى ذلك أن والي جنوب دارفور الجديد يمتاز بروح الفكاهة والتعليقات العفوية، وهذه خاصية أخرى تعد مطلوبة في دارفور، وتكسب الحاكم مكانة في النفوس. وعلاوة على ذلك كله يمتاز آدم الفكي بالانفتاح على كافة المكونات السياسية بما فيها تلك التي تقف على رصيف المعارضة وذلك من أجل المصلحة العامة.

صحيفة الصيحة




مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.