مائة عام على آخر اجتماع للشعوب العربية تحت راية واحدة!

أشهرٌ قليلة وتحلّ علينا الذكرى المئوية الأولى لآخر اجتماع لشعوب منطقة الشرق الأوسط تحت راية واحدة، كانت تجمعهم دون أي تمييز بينهم، سواء كانوا أتراكًا أو عربًا أو أكرادًا، مسلمين أو مسيحيين، أو غير ذلك، راية كنا نستظل تحتها، تحمينا من حرّ التفرقة والتشرذم والخلافات الطائفية والعرقية والدينية التي تفتك بنا اليوم.

هي معركة “كوت العمارة” التي هزم فيها جيشُ الخلافة الإسلامية العثمانية جيشَ الأمبراطورية البريطانية، خلال الحرب العالمية الأولى، والتي وقعت ما بين 7 كانون الأول 1915 و26 نيسان 1916.

كوت العمارة، هي مدينة عراقية على نهر دجلة، وتقع على بعد 350 كلم أعلى النهر من البصرة ونحو 170 كلم من بغداد، استطاع جيش الخلافة الإسلامية العثمانية، بكل مكوناته العربية والكردية والتركية (من دمشق والبصرة وبيروت وبغداد والسليمانية…) من إلحاق هزيمة مريرة بجيش الإمبراطورية البريطانية، الذي كان يحاول احتلال العراق مع قوات الحلفاء.

هي من ألمع المعارك الإسلامية في العصر الحديث، ونصر مؤزر أحرزه المسلمون على الغزاة البريطانيين، بدأها القائد العثماني أمير اللواء نور الدين إبراهيم وأنهاها أمير اللواء خليل كوت (اتخذ هذه الكنية بعد النصر في هذه المعركة)، وقد خسرت فيها القوات البريطانية أكبر عددًا من الأسرى في تاريخها (أكثر من 13 ألف عسكري)، وذلك بعد حصار جيش الخلافة الإسلامية العثمانية لها في هذه المنطقة لمدة 147 يومًا.

وخلال الحصار، حاول القادة البريطانيون رشو العثمانيين لفك الحصار، حيث كان أوبري هربرت ولورنس العرب جزءًا من فريق من الضباط أرسل ليتفاوض على صفقة سرية مع الجيش العثماني.

عرض البريطانيون 2 مليون جنيه استرليني ووعدوا أن لن يقاتلوا الجيش العثماني أبدًا، مقابل فك الحصار، إلا إن هذا العرض رُفض واستمر الحصار العثماني حتى تحقق النصر بالصبر والإصرار والعزيمة ورفض الإغراءات المالية لشراء الذمم والمواقف، كما هو عليه الحال بعد مائة عام من هذه المعركة.
ولا تزال قبور الشهداء العثمانيين الذين شاركوا بهذه المعركة، شاهدة على وحدة الأمة آن ذاك، وهي موجودة حتى اليوم في هذه المنطقة، تزار من قبل المسؤولين الأتراك بشكل دوري، وكذلك تلقى اهتمامًا من قبل من يشعر بالألم لما آل إليه حال الأمة من تفرقة وتشرذم وخلافات أبعدتنا عن عدونا الحقيقي.

هذه المعركة التي أعاد ذكراها للواجهة، رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو خلال استقباله وفدًا صحفيًّا من إقليم شمال العراق، في العاصمة التركية أنقرة، في منتصف شهر آب الجاري، حيث أكد على ضرورة تكاتف شعوب الشرق الأوسط من جديد، من أجل تعزيز الصداقات وجلب السلام إلى الشرق الأوسط.

وأضاف داوود أوغلو عن هذه المعركة الملحمة “لقد اجتمعت شعوب الشرق الأوسط للمرة الأخيرة خلالها، من أجل كرامة بغداد والموصل وكركوك وأربيل والسليمانية، والبصرة”، مضيفًا: “وبعد ذلك فرقوا بيننا، وفصلوا الصديق عن صديقه والشقيق عن شقيقه، ولم يكتفوا بالفصل بين الدول، بل فصلوا بين المدن أيضًا، وقالوا هذه مدينة عربية، وتلك مدينة تركية، وهذه مدينة كردية، وتلك مدينة شيعية، وهذه مدينة سنية”.

أن يصدر هذا الكلام من مسؤول كبير في دولة كبيرة اليوم، لهو دعوة واضحة لكل شعوب الشرق الأوسط لتذكّر تاريخها المشرّف والعظيم، وما حققته من بطولات وإنجازات يوم أن كانت يدًا واحدة في مواجهة أعدائها الحقيقيين، ودعوة للسعي من أجل إعادة مجد هذا التاريخ وإعادة الوحدة فيما بيننا.. تلك الوحدة التي هي أصلًا دعوة إلهية ونبوية.

يوم أن كان أبناء الشرق الأوسط، يدًا واحدة، تحت راية واحدة، على قلب رجل واحد، لا يلتفتون لصغائر خلافاتهم أو اختلافاتهم، أو عاداتهم أو لغاتهم، حيث أنه “لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى”، ولا يهتمون لدسائس أعداء الأمة بكل مكوناتها، ولا يخونون بعضهم البعض، ولا يصغون للعَصبيّات القومية والعرقية… حققوا الكثير، ليس في هذه المعركة فقط، بل على مدى مئات السنين قبلها.

سُنّة الله في هذه الأمة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء في يوم صاف: في الوحدة انتصار وعزة وهيبة.. وفي التشرذم والتفرقة والصراعات هزيمة وذل وخزي وعار.

يوم أن نتفرق لن يمنحنا الله أي نصر، وسنخسر أغلى ما نملك ـوالقدس خير دليل من الزمن غير البعيدـ ويوم أن نتوحد لن يمنحنا الله إلا النصر المؤزر، ومن يقرأ تاريخ هذه الأمة سيعلم هذه الحقيقة وهذه السنّة الإلهية في هذه الأمة المحمّدية.

هكذا هي، لا يمكن أن نبدلها أو نغيرها أو نلتفّ عليها من هنا أو هناك.. فها نحن اليوم وبعد مائة عام على آخر اجتماع لنا، ماذا حققنا كأمّة، نمتلك أعظم وأكبر خيرات الأرض؟! نمتلك كل مقومات القوة الطبيعية والبشرية.. لم نحقق أي شيء منذ مائة عام!

لم نحقق أي شيء منذ مائة عام، لأننا متفرقون منشغلون بما أشغلنا به أعداءنا بعد أن مزقونا وفرّقونا تحت شعارات واهية، شعارات عرقية وطائفية وقومية وجغرافية وسياسية.. لم نحقق أي شيء لأننا ملتهون بكل هذه الترهات وبعيدون كل البعد عن مفهوم الأمة الواحدة، وعن تعاليم ديننا الحقيقية.
إن أردنا عزًّا كعز معركة “كوت العمارة” علينا أن نحقق ما حققه أجدادُنا الذين شاركوا فيها، حيث توحدوا من تُرْك وعَرب وكُرْد وذابوا في مفهوم الأمة، وإلا سنبقى كما نحن اليوم، وستبقى فلسطين مسلوبة وسيبقى الأقصى أسيرا، وستبقى شعوبنا تغرق ببحار الدماء، وسيبقى أعداؤنا في أسعد حالاتهم وأبهجها، يتحكمون بنا وبثرواتنا وبمصيرنا وبعقولنا وأفكارنا.

أعداؤنا، بعد هذه المعركة فهموا أن هزيمتنا لا يمكن أن تكون إلا بعد بث الخلافات المختلقة فيما بيننان وهذا ما حصل بعد العام 1916 وتمزقت الأمة تحت عناوين ثورية وعناوين قومية وعرقية، وجاء “سايكس بيكو” ضيفا لا منازع له في الشرق الأوسط، ومازال حتى اليوم ضيفًا ثقيل الدم، سمجًا يجثوا على صدورنا.

فلتكن “كوت العمارة” درسا يجمعنا من جديد وعمارة قائمة نسكنها جميعا، لا عمارة مهدومة نكون مشردين خارجها، فلنتوحد من جديد، ولننسَ مآسي الماضي، ولنضع خلافاتنا جانبًا، ليس لأجل شيء بل لأجل الله الذي أكرمنا بأعظم نبي وأعظم كتاب وأعظم دين.

الدروسُ التاريخية في مدرسة الوِحْدة كثيرة جدًّا، فهل سنكون مجتهدين بدراستنا لننال شهادة النجاح، أم أننا مازلنا نحتاج لدورات تكميلية قد لا تؤمّن لنا النجاح الذي نصبوا إليه؟!

هذا هو واقع الأمة بعد آخر اجتماع لها تحت راية واحدة قبل مائة عام، أصدقاء وأشقاء تملأ قلوبَنا وعقولنا الصراعات، مدن وقرى ممزقة بين عربية وتركية وكردية، مجتمعات منغلقة على بعضها بين شيعية وسنية.. ألا تكفينا مائة عام من التفرقة لنأخذ العبر والدروس ونتوحد من جديد ونعيد تصويب بوصلتنا نحو الطريق الصحيح؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.