يخوض جنرالات الجيش السوداني وأمراء “الجنجويد” حربهم للبقاء في السلطة، على ثلاث جبهات ساخنة: جبهة الداخل، ضد قوى الثورة والتغيير، الجبهة الشمالية، على مثلث حلايب شلاتين مع مصر، والجبهة الجنوبية على الحدود مع أثيوبيا، في ولاية القضارف…ويمكن أن نضيف إليها جبهة رابعة، تحتدم حول سدّ النهضة وصراع المياه، مثلث الأضلاع: مصر، أثيوبيا والسودان.
هي معارك أكبر من أن تحتملها، دولة مستقرة ومزدهرة، فكيف هو الحال بالنسبة للسودان المنهك بحروبه الداخلية وحروب الآخرين عليه، المثقل بأزماته المالية والاقتصادية والاجتماعية، الخارج للتو من قبضة نظام شمولي قضى في السلطة أزيد من عقود ثلاثة، أُدرج خلالها على قوائم الدول الراعية للإرهاب، وبات رئيسه المخلوع، طريداً لمحكمة الجنايات الدولية، بعد أن ن أأدخل البلاد والعباد في نفق العزلة والحصار والعقوبات الصارمة.
لسنا هنا بصدد تحدي مطالب السودان وتفنيد ما يعتقده حقوقاً سيادية في أرضه، إن لجهة المثلث الحدودي مع مصر: حلايب وشلاتين، أو لجهة مقاطعة “الفشقة” على الحدود مع إثيوبيا، كما أننا لسنا بوارد إبداء الرأي في السجال القانوني المحتدم بين الأطراف الثلاثة، حول تبعات بناء سد النهضة وشروط تعبئته، فتلكم قضايا تحتاج لمداخلات مختلفة، ليس هذا مكانها، لكننا في هذه المقالة، معنيون حصراً، بقراءة العلاقة العضوية بين إدارة “الفريق العسكري/السيادي” في الحكم الانتقالي لهذه الملفات من جهة، وسعيه لقطع الطريق على مسار الانتقال المدني – الديمقراطي في البلاد، من جهة ثانية.
من ترامب إلى بايدن
أنجز جنرالات السودان وجنجويده، صفقة مع إدارة ترامب، أخرجوا السودان بموجبها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، نظير انخراطهم في مسار تطبيعي مع إسرائيل…لقد قاد الجناح العسكري هذه العملية، وأحياناً بالضد من إرادة غالبية أطراف “المكون المدني” في السلطة، وغالباً بالضد من إرادة غالبية السودانيين، كما كشفت استطلاعات “موثوقة” للرأي العام…وظنّ ثنائي العسكر البرهان-حميدتي، أن إدارة ترامب، وحكومة نتنياهو، ربما تشكلان “شبكة أمان” متينة لهما في حكم البلاد والعباد، على اعتبار أنهما الأكثر حماسة لـ”التطبيع”، وأنهما يحظيان بدعم القاهرة والرياض وأبو ظبي، بوصفهما ضمانة عدم عودة “الإسلاميين” للسلطة، والكابح الأقوى للانتقال السوداني المُحرج للديمقراطية.
يومها، كان واضحاً، أن معركة العسكر للبقاء في السلطة، يتعين أن تتركز على خطوط التماس الداخلية، مع القوى المدنية الأكثر تعبيراً عن أهداف وتطلعات ثورة ديسمبر 2018…رأينا تعطيلاً منهجياً منظماً، لتنفيذ الوثيقة الدستورية (أغسطس 2019)، وتابعنا حملات تجييش وتحريض على الحكومة، وخطاباً شعوبياً يدغدغ مشاعر السودانيين، ويلعب على أوجاعهم وأشواقهم، في مسعى من “جنرالات الجيش وأمراء الجنجويد” لكسب المعركة على قلوب السودانيين، وتسويق وتسويغ، عسكرة الحكم، إن بحجة عدم كفاءة ونزاهة الفريق المدني، أو بذريعة انقساماته الداخلية.
لم يستمع جنرالات السودان لأية نصيحة من مايك بومبيو أو غيره من موفدي إدارة ترامب، تحثهم على تسريع المسار الانتقالي، والالتزام بأجندته ورزنامته، كل ما كان يهم الإدارة السابقة، هو ضمان تسريع مسارات التطبيع مع إسرائيل…قرأ العسكر رسالة الإدارة بوصفها ضوءاً أخضر، للمضي في مسعاهم، واعتقدوا أن بمقدورهم “البطش” بقوى الثورة والتغيير، وإعمال القبضة الحديدة ضد المحتجين والمتظاهرين السلميين، وتضييق الخناق حول أعناق القوى والشخصيات المدنية.
نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لم تهبط “برداً وسلاماً” على هؤلاء، صحيح أن “التطبيع” مع إسرائيل، مسارٌ تدعمه إدارة بايدن، بيد أنه “لا يَجُبُّ ما قبله أو ما بعده”، وبدل ضغوط بومبيو لتسريع هذا المسار، أخذ بلينكن يتحدث عن دعم الانتقال الديمقراطي والحكم المدني وحقوق الانسان والديمقراطية…هنا، شعر “الجنرالات والأمراء”، بأن خيوط شبكة الأمان التي ظنّوها متينة وقوية، بدأت تتمزق وتتفتت من تحت أقدامهم، وأن “لا شيك على بياض” بات بين أيديهم، وأن التطبيع وحده، ليس “بوليصة تأمين” للبقاء في السلطة.
كفّ الجنرالات والأمراء، عن توجيه سهام غضبهم، وأوقفوا حربهم على “المكون المدني”، أقله في العلن، وقبلوا بتعديل حكومة عبد الله حمدوك، وأشركوا أحزاباً وقوى “ثورية” في الحكومة، لكنهم بدل أن يرفعوا الراية البيضاء ويعيدوا تجديد التزامهم بتسليم السلطة للمدنيين، كما كان مطلوباً منهم، لجأوا إلى تكتيكات جديدة، لعرقلة مسار الانتقال وتأبيد سلطتهم.
في زمن ترامب، والعزف على أوتار “التطبيع”، نجحوا في تمديد الفترة الانتقالية، وهم اليوم، في زمن بايدن، يسعون في “وضع أيديهم” على مؤسسات المرحلة الانتقالية، بما فيها “المجلس التشريعي الانتقالي”، يؤلبون قوى الثورة بعضها على بعض، ويستنجدون بـ”الجبهات الثورية” لاستحداث التوازن مع قوى التغيير المدنية، بل أنهم لم يتورعوا عن تبادل “رسائل الغزل” مع القوى الإسلامية البائدة، فتقوم الأخيرة بتنظيم التظاهرات والاحتجاجات ضد الحكومة، بالتحالف والتضامن مع “فلول” النظام السابق، مطالبةً بإسقاطها، ومبديةً الاستعداد للتعاون مع الجناح العسكري، بل واستدعائه لإنقاذ البلاد والعباد من براثن “الكفرة والملحدين”…كل ذلك، حتى لا يأتي “الانقلاب” فجاً ومباشراً، ومن تدبير المؤسسة العسكرية، بل بوصفه استجابة لثورة ثانية، شعبية كذلك، لكأننا أمام سيناريو ثورة يونيو 2013 في مصر، التي جاءت المؤسسة العسكرية على جناحيها لحكم البلاد والعباد، مع فارق الحجم والوزن والسياقات بين التجربتين.
كل هذا لم يكن كافياً على ما يبدو، لتسويق حكم العسكر وتسويغ سطوة الجنرالات…هنا، ودائماً في تجارب مماثلة، لا بد من العزف على وتر “الطوارئ” و”التهديد الخارجي” و”العدو المتربص” على الحدود، إذ حتى لو لم يكن مثل هذا التهديد قائماً، و”العدو” موجوداً، لتعين خلقهما، فتلكم هي الطريقة الأمثل، لتعميم الإحساس بالحاجة للعسكر والجنجويد، إن بفعل “الشعور القومي الجيّاش”، أو بفعل الخشية من عواقب ضياع الأرض والسيادة والكرامة…والمياه.
في مثل هذه المناخات، يقود عسكر السودان وجنجويده، ملف الصراع الحدودي مع أثيوبيا، وفي هذا السياق، تأتي إثارة ملف النزاع على المثلث الحدودي مع مصر، وبهذه الروحية إلى حد كبير، يُدار ملف الصراع المائي مع أثيوبي…وليس صدفة أن نرى الجنرالات يتسابقون لالتقاط الصور على الحدود وبين الجنود المدججين بالسلاح، رافعين قبضاتهم وملوحين بـ “عصيّ المارشالات”، مطلقين الهتافات والتعهدات بالدفاع عن سيادة الأوطان وراياتها، وغير ذلك “عراضات” و”استعراضات”.
ملف “الفشقة” مع أثيوبيا، قديم جداً، عمره على الأقل ربع قرن، وملف حلايب وشلاتين، أقدم زمناً، وأكثر التباساً، أما ملف المياه، فيكفي أن نرى “تقلبات” مواقف الخرطوم، حتى ندرك أن إدارة هذا الملف، تخضع في كثير من الأحيان، لحسابات “الداخل” و”صراع السلطة”، ولا ينطلق بالضرورة من حسابات واعتبارات مبدئية وحقوقية (سيادية).
ليس للسودان، أن ينجو في مواجهات متزامنة، على الأرض والمياه، مع اثنتين من أكبر الدول الأفريقية، وهو في وضع داخلي شديد التمزق والهشاشة والفاقة والعوز، وتقضي الحكمة أن تقود الخرطوم نزاعاتها وخلافاتها مع الدولتين الجارتين، بكثير من العقلانية والواقعية، وأن تغلب أولوية ترتيب البيت الداخلي ومعالجة تحدياته الجسام، على أية أولوية أخرى، وأن تبذل جهداً “قبل خراب البصرة”، للوصول مع القاهرة وأديس أبابا لحلول تفاوضية – توافقية حول مسألة السدّ ومياه النيل، وأن تلجأ للوسائل السلمية في نزاعاتها الحدودية، مع جوارها العربي والإقليمي، حتى وإن تطلب الأمر، اللجوء للتحكيم والتقاضي الدوليين…هذا هو طريق السودان للتعافي، أما طريق العسكر، فيبدو مختلفاً بعض الشيء، أو مختلفاً كثيراً.
الحرة