جعفر عباس : المال والقلم لا يزيلان «البلم»

سودافاكس ـ العنوان‭ ‬أعلاه‭ ‬مثل‭ ‬سوداني‭ ‬شائع‭ ‬وعظيم‭ ‬الدلالات،‭ ‬ويعني‭ ‬أن‭ ‬القلم‭ ‬أي‭ ‬التعليم‭ ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تزيل‭ ‬‮«‬البلم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬البله‭ ‬والغباء‭ ‬والعبط‭ ‬وسوء‭ ‬التقدير،‭ ‬وتأسيسا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المثل‭ ‬استعيد‭ ‬اليوم‭ ‬حكاية‭ ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬اضطر‭ ‬إلى‭ ‬حرق‭ ‬جثماني‭ ‬أمه‭ ‬وأبيه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬باظت‮»‬‭ ‬الثلاجة؟‭ ‬وأصل‭ ‬الحكاية‭ ‬أن‭ ‬الزوجين‭ ‬أوصيا‭ ‬بحفظ‭ ‬جثتيهما‭ ‬في‭ ‬ثلاجة‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬حرارة‭ ‬معينة‭ ‬بعد‭ ‬وفاتهما‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬ينجح‭ ‬الطب‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬لاحق‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬بث‭ ‬الحياة‭ ‬فيهما،‭ ‬وكانت‭ ‬الزوجة‭ ‬قد‭ ‬توفيت‭ ‬أولا‭ ‬فوضعها‭ ‬زوجها‭ ‬في‭ ‬الفريزر،‭ ‬ولحق‭ ‬هو‭ ‬بها‭ ‬بعد‭ ‬أربع‭ ‬سنوات،‭ ‬فوضعه‭ ‬ولده‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الفريزر‭ ‬مع‭ ‬أمه،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬توصل‭ ‬العلم‭ ‬إلى‭ ‬طريقة‭ ‬يتم‭ ‬بها‭ ‬وضع‭ ‬الميت‭ ‬المجمد‭ ‬في‭ ‬مايكروويف‭ ‬لـ‮«‬يسيح‮»‬‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬الحياة،‭ ‬وبعدها‭ ‬بعدة‭ ‬سنوات‭ ‬انقطع‭ ‬التيار‭ ‬الكهربائي‭ ‬عن‭ ‬البيت‭ ‬وبالتالي‭ ‬عن‭ ‬الفريزر‭ ‬ساعات‭ ‬طويلة،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الجثتين‭ ‬تذوبان‭ ‬وتتعرضان‭ ‬للتلف،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الابن‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬قام‭ ‬بحرق‭ ‬جثماني‭ ‬والديه‭ ‬منعا‭ ‬لتحللهما‭ ‬وتعفنهما‭. ‬العجيب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬الزوج‭ ‬الذي‭ ‬سبقته‭ ‬زوجته‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬كان‭ ‬يعرض‭ ‬جثمانها‭ ‬المثلج‭ ‬على‭ ‬الزوار‭ ‬والسياح‭ ‬نظير‭ ‬مبلغ‭ ‬معلوم،‭ ‬وأوصى‭ ‬ابنه‭ ‬أيضا‭ ‬بأن‭ ‬يجعل‭ ‬جثمانه‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬‮«‬فُرجة‮»‬‭ ‬للسياح‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬حدوث‭ ‬المعجزة‭ ‬الطبية‭ (‬قبل‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭!!) ‬وبث‭ ‬الحياة‭ ‬فيهما‭ ‬مجددا‭. ‬ولا‭ ‬تسألني‭: ‬أين‭ ‬كانت‭ ‬الشرطة‭ ‬والسلطات‭ ‬الأمنية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وهناك‭ ‬اتجار‭ ‬بالبشر‭ ‬وهو‭ ‬أموات‭.‬

 

ويقولون‭ ‬لنا‭ ‬إن‭ ‬الغربيين‭ ‬عقلانيون‭ ‬ويتعاملون‭ ‬مع‭ ‬الموت‭ ‬بعقلانية‭ ‬لكونه‭ ‬مصيرا‭ ‬حتميا‭ ‬لكل‭ ‬ابن‭ ‬آدم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يبكون‭ ‬موتاهم‭ ‬كما‭ ‬نفعل‭ ‬نحن‭ ‬الشرقيون‭ ‬‮«‬العاطفيون‮»‬‭. ‬دعونا‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين‭ ‬وتعالوا‭ ‬نقرأ‭ (‬معليش‭ ‬للمرة‭ ‬الـ567‭ ‬بعد‭ ‬الألف‭)‬،‭ ‬حكاية‭ ‬رجل‭ ‬مسلم‭ ‬حسبما‭ ‬يفيد‭ ‬اسمه‭ ‬هو‭ ‬محمد‭ ‬الفايد‭ ‬المليونير‭ ‬المعروف‭ ‬وصاحب‭ ‬فندق‭ ‬الريتز‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬وحتى‭ ‬قبل‭ ‬سنوات،‭ ‬محلات‭ ‬هاردوز‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬حيث‭ ‬كيلو‭ ‬اللحم‭ ‬العجالي‭ ‬بنحو‭ ‬65‭ ‬دولارا‭ ‬أمريكيا‭. ‬فعندما‭ ‬نجح‭ ‬إيان‭ ‬ويلموت‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬معاهد‭ ‬البحوث‭ ‬في‭ ‬اسكتلندا‭ (‬هكذا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تُكتب‭ ‬أي‭ ‬بدون‭ ‬ألف‭ ‬قبل‭ ‬السين،‭ ‬مع‭ ‬بذل‭ ‬الجهد‭ ‬لجعل‭ ‬السين‭ ‬ساكنة‭) ‬عندما‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬استنساخ‭ ‬النعجة‭ ‬دوللي،‭ ‬وطرح‭ ‬العلماء‭ ‬إمكان‭ ‬استنساخ‭ ‬البشر‭ ‬كان‭ ‬الفايد‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬انه‭ ‬يريد‭ ‬استنساخ‭ ‬نفسه‭ ‬كي‭ ‬يعيش‭ ‬دورة‭ ‬حياة‭ ‬جديدة‭. ‬والفايد‭ ‬بكل‭ ‬ثروته‭ ‬الهائلة‭ ‬ورغم‭ ‬السنوات‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬‮«‬العقلاني‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬استنساخ‭ ‬نفسه‭ ‬فإن‭ ‬الفايد‭ ‬المستنسخ‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬هو‮»‬،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الشكل‭. ‬يعني‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬الخلود‭ ‬المنشود‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬المستنسخ‭ ‬أكثر‭ ‬رجاحة‭ ‬عقل‭ ‬من‭ ‬الأصل‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬بلها،‭ ‬بحسب‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬وبحسب‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الشخصية‭.‬

 

بعض‭ ‬الأغنياء‭ ‬يأتون‭ ‬أفعالا‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬قلة‭ ‬العقل،‭ ‬فقد‭ ‬اشترى‭ ‬أحدهم‭ ‬لوحة‭ ‬نساء‭ ‬الجزائر‭ ‬للرسام‭ ‬الاسباني‭ ‬بابلو‭ ‬بيكاسو‭ ‬بـ180‭ ‬مليون‭ ‬دولار،‭ ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬سيدفع‭ ‬واحدا‭ ‬على‭ ‬الألف‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المبلغ‭ ‬للزواج‭ ‬بامرأة‭ ‬حية‭ ‬من‭ ‬الجزائر؟‭ ‬واشترى‭ ‬آخر‭ ‬لوحة‭ ‬مخلص‭ ‬العالم‭ ‬للرسام‭ ‬سلفاتور‭ ‬مندي‭ ‬بـ450‭ ‬مليون‭ ‬دولار،‭ ‬ومن‭ ‬يدفعون‭ ‬تلك‭ ‬المبالغ‭ ‬الفلكية‭ ‬في‭ ‬اللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬بغرض‭ ‬احتكارها‭ ‬أي‭ ‬لعرضها‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬بيوتهم‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬متاحف‭ ‬بحيث‭ ‬تكون‭ ‬متاحة‭ ‬لمحبي‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬أي‭ ‬أنهم‭ ‬يسارعون‭ ‬إلى‭ ‬بذل‭ ‬المال‭ ‬ليس‭ ‬حبا‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التباهي‭ (‬مثل‭ ‬المليونير‭ ‬الذي‭ ‬عرض‭ ‬ملايين‭ ‬الدولارات‭ ‬على‭ ‬ممثلة‭ ‬آسيوية‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬الأفلام‭ ‬الفاضحة‭ ‬نظير‭ ‬تناول‭ ‬وجبة‭ ‬العشاء‭ ‬معه،‭ ‬ولكنها‭ ‬أثبتت‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬محترمة‮»‬‭ ‬ورفضت‭ ‬العرض‭) ‬ولكن‭ ‬الفايد‭ ‬‮«‬غير‮»‬‭.. ‬شكل‭ ‬تاني‭.. ‬فقد‭ ‬أعلن‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬لجثمانه‭ ‬أن‭ ‬يدفن‭ ‬أو‭ ‬يحرق،‭ ‬بل‭ ‬ان‭ ‬يتم‭ ‬تحنيطه‭ (‬ربما‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬وضعه‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬مع‭ ‬خوفو‭ ‬وأمون‭ ‬ونفرتيتي‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬مستعد‭ ‬لفعل‭ ‬وقول‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ليظل‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الضوء‭ ‬ويحسب‭ ‬انه‭ ‬بأمواله‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يقهر‭ ‬الموت‭: ‬طيب‭ ‬يا‭ ‬فايد‭ ‬نشوف،‭ ‬والأيام‭ ‬بيننا‭! ‬ولعلمك‭ ‬فالنعجة‭ ‬دوللي‭ ‬التي‭ ‬اتخذت‭ ‬منها‭ ‬مثلا‭ ‬أعلى‭ ‬شبعت‭ ‬موتا‭ ‬في‭ ‬14‭ ‬فبراير‭ ‬2003،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬سيظل‭ ‬التاريخ‭ ‬يذكرها‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬عصور‭ ‬كثيرة‭ ‬بينما‭ ‬أشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬ميتا‭ ‬محنطا‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬للبشرية‭ ‬خدمة‭ ‬ولم‭ ‬يرتبط‭ ‬اسمه‭ ‬بإنجاز‭ ‬يهم‭ ‬البشرية‭.‬

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.