جعفر عباس :الأخلاق ضحية عصر السرعة (2)
سودافاكس ـ صرنا في حالة هلع وهرولة تحت ذريعة مجاراة إيقاع العصر، ويبدو أن «أخلاقنا» لم تعد قادرة على مجاراتنا في مضمار السباق، فصرنا نواصل الركض ونصبح عدوانيين وأفظاظا قليلي الصبر وقصيري «البال»، وكلمة البال عميقة المعاني والدلالات، وأسعد كثيرا عندما يدعو لي أحدهم براحة البال، وفي القرآن الكريم: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ» والبال هو الحال، وقالوا: هو الشأن، وقالوا: هو القلب، وقالوا: هو النية، وبناء عليه فإن «أصلح بالهم» تعني «أصلح شأنهم، أصلح حالهم، أصلح نيتهم، أصلح قلوبهم، أصلح عقولهم ونفوسهم»، فانظر كم يخسر من هو ليس بطويل وقوي البال.
والشاهد هو أن هناك موجة غضب وبائية تجتاح مجتمعاتنا، وقد لا يمر يوم من دون ان ينفجر شخص في وجهك أو تجد نفسك طرفا في فاصل ردح وشتائم مع شخص لا تعرفه. قد يكون ذلك الشخص بائعا في محل بيرغر اعطاك سندويتش دجاج بدلا من اللحم، وهذا خطأ بسيط وكلنا نخطئ. وحدث في أرقى البلدان استئصال كلية شخص بدلا من قدمه المصابة بالغرغرينا. وجلّ من لا يسهو، وأعترف بأنني قد أفقد اعصابي في مواقف قد لا تستفز غيري، وتحديدا إزاء سلوك اعتبره جلافة و«انعدام ذوق أو أدب»، ويحز في نفسي ان اول ضحايا فلتان اعصابي هم افراد اسرتي، ولكن عزائي هو أنهم يعرفون أن لحظات هيجاني قصيرة جدا ومن ثم لا ينفعلون بها او يتفاعلون معها، والايجابي في الأمر هو انني امر بلحظات صفاء طويلة أكون فيها ديمقراطيا ويستغل عيالي تلك اللحظات لانتقاد هيجاناتي المتكررة، أو يعاقبونني بأن يتهامسوا بينهم كلما جلست بينهم أو يخاطبونني عن طريق أمهم، وهم يعلمون ان هذا يستفزني جدا، فما من شيء يضايقني كأن يطلب عيالي أشياء مني «بواسطة» أمهم، فذلك في تقديري منتهى سوء الظن بي. المهم ان كل ذلك علمني ان اضبط أعصابي قدر المستطاع والصبر على سخافات عيالي (وما اعتبرها سخافات قد يعتبرونها هم أمورا في منتهى الجدية).. ذات مرة انفجرت في وجه أصغر عيالي لأنه قال لي انه أحرز تقدير ممتاز في مادة العلوم وألقيت نظرة على تقريره المدرسي واكتشفت انه عدد درجاته (60) فجعلت يومه بلون بشرتي أي «أسود ومنيل»، بمعنى انني شرشحته وبهدلته على «عدم أمانته وكذبه»، وبعد ان صبر المسكين على ذلك الهيجان قال لي بهدوء ان النتيجة 60 من 70!! أدرك الولد انني حسبت تلك النتيجة 60 من 100، وصرت مثل السمسمة من فرط الخجل واضطررت الى تقديم مكافأة مادية سخية له مداراة لخجلي من نفسي لسوء ظني به. وقد نجحت الى حد كبير في السيطرة على انفعالاتي ولكنني ألاحظ ان كثيرين من حولي يتحرشون بي وبغيري ويثورون لأتفه الأسباب، ولا اعرف لماذا إذا غضب مني أحد تركني في حالي وشتم أبي و«أبو أهلي»؟ وكل هذا كوم والشتائم التي تتناول العورات كوم آخر. والمصيبة ان مفردات تتعلق بالعورات صارت متداولة في لغة السباب بحيث لم يعد كثيرون يعتبرونها ماسة بالشرف.. سمعت في مجمع تسوق امرأة عربية تشتم شابا يبدو انه غازلها بكلمات شديدة البذاءة حتى كدت اصيح فيها «طالما قاموسك متخم بالبذاءة فعلام الاحتجاج على المعاكسة والمغازلة؟».
ولأنني صرت مدركا ان فلتان الأعصاب الذي ينتابني أمر معيب فقد صرت أكثر حرصا وقدرة على السيطرة عليه، ولاحظت مؤخرا أنني لم أعد انفعل وأثور أثناء قيادة السيارة إزاء السائقين الطائشين، بل لم أعد أهمهم في سري: غبي/حمار، كما أن محاولة الكمبيوتر فرض وصاية علي وتشكيكه الدائم في قراراتي بالانتقال من صفحة الى أخرى او شطب ومسح مادة ما بطرح السؤال: هل انت متأكد من أنك تريد ان تفعل هذا؟ لم يعد ذلك يستفزني ولم اعد اشتم غوغل وياهوو وبيل غيتس ومارك زوكربيرغ.