جعفر عباس : عن رهق المراهقة المزعوم

سودافاكس ـ أحس‭ ‬أحيانا‭ ‬بـ«الذنب‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬أخوض‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬الصحة‭ ‬والعائلة،‭ ‬ومرد‭ ‬ذلك‭ -‬كما‭ ‬قلت‭ ‬مرارا‭- ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬شديد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بقضايا‭ ‬الصحة‭ ‬العامة‭ (‬وليس‭ ‬الطب‭) ‬والتربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬بالمفهوم‭ ‬العريض‭ ‬لتلك‭ ‬القضايا،‭ (‬لأنني‭ ‬أكتب‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الصحية‭ ‬فإنني‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬اسمع‭ ‬ثناء‭ ‬من‭ ‬نوع‭: ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬عليك‭. ‬ثقافتك‭ ‬الطبية‭ ‬عالية‭. ‬وحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬ثقافتي‭ ‬الطبية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سطحية،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬أميِّز‭ ‬بين‭ ‬المريء‭ ‬والمرارة،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يعيب،‭ ‬بينما‭ ‬من‭ ‬واجب‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬أن‭ ‬يملك‭ ‬قدرا‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬الصحية،‭ ‬ليتفادى‭ -‬ما‭ ‬أمكنه‭ ‬ذلك‭- ‬العلل‭ ‬والخلل‭ ‬الجسماني‭ ‬والنفساني‭).‬

وأريد‭ ‬اليوم‭ ‬التحدث‭ ‬عن‭ ‬مرحلة‭ ‬المراهقة،‭ ‬لأنني‭ ‬عن‭ ‬معايشة‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الآباء‭ ‬والأمهات‭ ‬أحس‭ ‬أن‭ ‬الحديث‭ ‬عنها‭ ‬يتسم‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬التهويل،‭ ‬فالشخص‭ ‬المراهق‭ ‬ولدا‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬بنتاً‭ ‬يوصف‭ ‬على‭ ‬العموم‭ ‬بأنه‭ ‬متمرد‭ ‬وفالت‭ ‬وقابل‭ ‬للجنوح،‭ ‬ولستُ‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬اختصاصيين‭ ‬لأعرف‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬ينحرف‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مرحلة‭ ‬عمرية‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الرعاية‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬توافر‭ ‬ما‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬الجنوح‭ ‬والانحراف‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬العائلية‭. ‬سأترك‭ ‬الشاعر‭ ‬ينثر‭ ‬الدرر‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭: ‬مشى‭ ‬الطاووس‭ ‬يوما‭ ‬باختيال‭ / ‬فقلَّد‭ ‬شكل‭ ‬مشيته‭ ‬بنوه‭/ ‬فقال‭ ‬عَلامَ‭ ‬تختالون‭ ‬قالوا‭ / ‬بدأت‭ ‬به‭ ‬ونحن‭ ‬مُقَلِّدوه‭/ ‬فخالِف‭ ‬سيرَكَ‭ ‬المعوج‭ ‬واعدل‭ / ‬فإنا‭ ‬إن‭ ‬عَدَلتَ‭ ‬مُعَدِّلوه‭ / ‬أما‭ ‬تدري‭ ‬أبانا‭ ‬كل‭ ‬فرع‭ / ‬يجاري‭ ‬بالخطى‭ ‬من‭ ‬أدبوه‭/ ‬وينشأ‭ ‬ناشئ‭ ‬الفتيان‭ ‬منا‭ / ‬على‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عوده‭ ‬أبوه‭.‬

‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬تجد‭ ‬زوجاً‭ ‬وزوجة‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الاستقامة‭ ‬والانضباط‭ ‬الخلقي‭ ‬والسلوكي‭ ‬ولكن‭ ‬عيالهم‭ ‬يكونون‭ ‬نقيض‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬أي‭ ‬‮«‬فالتين‮»‬‭! ‬وتفسير‭ ‬هذا‭ ‬سهل‭ ‬وواضح‭: ‬القدوة‭ ‬وحدها‭ ‬لا‭ ‬تكفي،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬السلوك‭ ‬القويم‭ ‬أو‭ ‬المنحرف‭ ‬لا‭ ‬ينتقل‭ ‬بالوراثة،‭ ‬بل‭ ‬بالقدوة‭ ‬و«التلقين‮»‬،‭ ‬وأعني‭ ‬بالأخيرة‭ ‬الأوامر‭ ‬والضوابط‭ ‬والنواهي،‭ ‬ولكن‭ ‬بدون‭ ‬جلافة‭ ‬وفظاظة‭ ‬وغلظة‭: ‬كنت‭ ‬وين‭ ‬أمس‭ ‬يا‭ ‬حمار‭ ‬يا‭ ‬كلب؟‭ ‬أشوفك‭ ‬دخلت‭ ‬البيت‭ ‬بعد‭ ‬أذان‭ ‬الفجر‭! ‬ولو‭ ‬ترويت‭ ‬قليلاً‭ ‬‮«‬يا‭ ‬‭****‬‮»‬‭ ‬لأدركت‭ ‬أن‭ ‬تجرؤ‭ ‬صبي‭ ‬عمره‭ ‬14‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬خارج‭ ‬البيت‭ ‬إلى‭ ‬فجر‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬دليل‭ ‬غفلة‭ ‬منك،‭ ‬وأن‭ ‬معالجة‭ ‬الأمر‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬حوار‭ ‬هادئ‭ ‬وحازم،‭ ‬فكثيرون‭ ‬منا‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬بلوغ‭ ‬الولد‭ (‬نعم‭ ‬الولد‭ ‬وليس‭ ‬البنت‭) ‬سن‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ ‬رخصة‭ ‬له‭ ‬كي‭ ‬يتصرف‭ ‬كـ«رجل‮»‬،‭ ‬يطلع‭ ‬وينزل‭ ‬متى‭ ‬وكيفما‭ ‬شاء،‭ ‬ويعتقدون‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬الولد‭ ‬أو‭ ‬البنت‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬حنان‭ ‬بعد‭ ‬بلوغ‭ ‬سن‭ ‬المراهقة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يسعد‭ ‬بالتدليل‭ ‬والاهتمام‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬بلغ‭ ‬الثمانين‭. ‬وسبحان‭ ‬الله،‭ ‬فالزوج‭ ‬يريد‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬أن‭ ‬‮«‬تدلعه‮»‬‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬ولكنه‭ ‬ينسى‭ ‬أن‭ ‬يستقبل‭ ‬ولده‭ ‬العائد‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬الإعدادية‭ ‬أو‭ ‬الثانوية‭ ‬بالأحضان‭: ‬كيف‭ ‬أمورك‭ ‬يا‭ ‬صاحبي؟‭ ‬عندك‭ ‬مزاج‭ ‬نروح‭ ‬اليوم‭ ‬‮«‬مطعم‭ ‬الأسماك‭ ‬الصحراوية»؟

وبالمناسبة‭ ‬فإن‭ ‬المراهق‭ ‬يتضايق‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬مظاهر‭ ‬الحنان‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الأم‭ (‬كأن‭ ‬تبوسه‭ ‬أمام‭ ‬الضيوف‭ ‬مثلاً‭). ‬يقول‭ ‬تقرير‭ ‬نشرته‭ (‬مجلة‭ ‬المراهقة‭ ‬المبكرة‭) ‬الأمريكية‭: ‬إن‭ ‬الصبي‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬بضع‭ ‬خصال‭ ‬كي‭ ‬ينشأ‭ ‬معافى‭ ‬من‭ ‬العلل‭ ‬السلوكية‭: ‬الكفاءة‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬عليه‭ ‬أداؤها،‭ ‬والثقة‭ ‬بالنفس،‭ ‬والإحساس‭ ‬بأنه‭ ‬ذو‭ ‬قيمة‭ ‬ومحترم،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬خاصة‭ ‬الأقارب،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬شخصيته‭ ‬المميزة،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬ذا‭ ‬حس‭ ‬اجتماعي‭ ‬يجعله‭ ‬يهتم‭ ‬بالآخرين،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬مستعداً‭ ‬للإسهام‭ ‬وتقديم‭ ‬العون‭ ‬المفيد‭ ‬للآخرين‭! ‬ويؤكد‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬التربوي‭ ‬أن‭ ‬المراهق‭ ‬لا‭ ‬يكتسب‭ ‬الخصال‭ ‬الحميدة‭ ‬من‭ ‬والديه،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحس‭ ‬بأنهما‭ ‬قريبان‭ ‬منه‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معتادا‭ ‬على‭ ‬مصارحتهما‭ ‬بما‭ ‬يواجهه‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬وما‭ ‬يرتكبه‭ ‬من‭ ‬أخطاء‭.. ‬يعني‭ ‬على‭ ‬الوالد‭ ‬من‭ ‬الجنسين‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صديقاً‭ ‬للعيال‭ ‬عندما‭ ‬يكبرون،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التفريط‭ ‬في‭ ‬الصلاحيات‭ ‬الرقابية‭ ‬للوالدين‭ ‬ومنها‭ -‬على‭ ‬مستوى‭ ‬عائلتي–‭ ‬حظر‭ ‬التجول‭ ‬بعد‭ ‬العاشرة‭ ‬مساء‭ ‬إلا‭ ‬بإذن‭ ‬مني‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬الجعافر‭.. ‬ويسري‭ ‬هذا‭ ‬الحظر‭ ‬عليّ‭ ‬أيضاً‭ ‬فلا‭ ‬أبقى‭ ‬خارج‭ ‬البيت‭ ‬بعد‭ ‬العاشرة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬إبلاغ‭ ‬بقية‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬بذلك،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬اعترضوا‭ ‬على‭ (‬تأخيري‭) ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬فعليهم‭ ‬ركوب‭ ‬أعلى‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬خيلهم‭!!!‬


انضم لقناة الواتسب

انضم لقروب الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.