جعفر عباس : أرمدان كبي بن عباس

سودافاكس ـ هناك ذكريات رمضانية لا تغيب عن ذاكرتي ورغم اني عشت طويلا خارج السودان إلا أن جميع ذكرياتي تلك تتعلق برمضان السوداني، ولا أحسب ان هناك بلدا سوى السودان تشم فيه رائحة رمضان منذ حلول رجب وشعبان بسبب الوصفة العبقرية لإعداد “الحلو مر”
بؤرة الذكريات الرمضانية عندي تكون دائما تلك الجزيرة النيلية (بدين) في شمال السودان النوبي حيث جميع سكانها اهلي، وحيث الصوم وافطار رمضان عمل جماعي، وتلح عليّ الذاكرة كي أقف عند محطة فضيحة أكتب عنها كل سنة، فقد كان من عادة الرجال والصبية الذكور من الاهل التوجه الى النهر عندما ينتصف نهار رمضان، ويبقوا فيه يسبحون حتى قبل الغروب بدقائق.

كنت في نحو الثامنة من العمر عندما وجدت نفسي مطالبا بالصوم لأثبت انني “راجل”، وفي اول يوم في رمضان استبسلت حتى منتصف النهار، ثم توجهت الى النيل مع اقراني، وكان يوما قائظ الحر، ومنطقة النوبة أصلا صحراوية المناخ، بها شتاء قارس البرد وشمس صيفية يخيل اليك انها شعاع ليزر مسلط عليك شخصيا؛ ونزلت في الماء وأحسست بمسامات جسمي تطلق بخارا له هسيس، وانتعشت وسبحت ثم غصت، وهناك تحت السطح احسست بالماء أكثر برودة، فقلت لا بأس في شفطة بسيطة ولا أحد يراني، وشفطت، وشفطت، حتى صارت الجرعة البسيطة كبيسة، ثم انتفخت مثل سمكة التامبيرة، وأحسست أن هناك خطأ في قانون الطفو الخاص بأرخميدس، لأنني صرت عاجزا عن تحريك اطرافي كي ابقى طافيا.

عندها رآني أحد كبار السن وحسب انني على وشك الغرق وسحبني الى الشاطئ، واستلقيت على الرمل الناعم في وضع جنيني، وفوجئت بالماء يتسرب عبر فمي وكأنه حنفية “محلوجة”، وجلست واضعا رأسي بين رجلي فإذا بالماء يواصل الانسياب، وإذا بجميع من حولي ينفجرون ضاحكين مستهزئين واطلقوا علي لقب “أرمدان كبي” وأرمدان هو رمضان، فاللسان النوبي لا يخرج صوت الضاد والعبارة تعني “فاطر رمضان”، ولا توجد كلمة نوبية واحدة تبدأ بحرف الراء، وإذا أراد النوبي ان ينادي رقية مثلا فإنه يجعلها “إرقية”.

وبداهة فقد صار اسمي أرمدان كبي بن عباس، وظلت تلك التسمية تبعث من مواتها الموسمي مع حلول الرمضانات التالية، وكنت في الصف الثالث من المرحلة المتوسطة حيث كان عمري نحو 13-14 سنة، عندما أعلن المدرس ان “يوم غد” هو اول رمضان، فصاح أحد الزملاء بما معناه: مبروك الشهر للجميع ما عدا “أرمدان كبي”، فتساءل المدرس عن سر التسمية، وما أن عرف تفاصيلها حتى هاج وماج ولعن خاش اهلي لأنهم وعلى حد قوله يكلفون عيالهم شططا بإرغامهم على صوم أيام كاملة وهم في سن الطفولة باسم “المرجلة”.

أبارك لكم مقدم الشهر الفضيل ولعل “الصاحين” منكم لا يعانون من صداع بسبب الحرمان من الشاي او القهوة، وأتمنى ان تصوموا ومزاجكم رائق وروحكم حلوة وتذكروا أن رمضان هو الشهر الوحيد الذي يتقاسم فيه الشعب والحكام “الحلو مر” بينما في بقية الشهور تحتكر الحكومة الحلو وتترك للشعب المر.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.