جعفر عباس : جنرالات السودان وجاهلية القرن الـ21
سودافاكس ـ من العام الماضي كتبت هنا في “عربي21” مقالا عنوانه “الجاهل عدو نفسه.. البرهان نموذجا”، عددت فيه القرارات والتصريحات الصادرة عن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد عام الجيش السوداني، التي تدل على أنه دخل عالم السياسة والحكم مجردا من الحكمة، وجاهلا بتعقيدات أمور السلطة والدولة والحكم، وقلت فيما قلت إن الجهالة السياسية للبرهان وشركاء الدم من مليشيا الدعم السريع وغيرها، تتجلى في تعويلهم في تسويق الانقلاب داخليا وخارجيا على مباركة من إسرائيل، التي أوفدوا إليها عسكريين ذوي رتب عالية قبل الانقلاب بأيام قليلة، واستقبلوا لاحقا وفودا عديدة قوامها رجالات المخابرات الإسرائيلية، فكافأتهم إسرائيل بأن جعلت أبواقها يرددون فرية أن البرهان لم يقم بانقلاب عسكري في 25 تشرين أول/ أكتوبر من عام 2021.
وما زال البرهان مستعصما بجاهليته السياسية، فبينما البلاد تغلي بسبب المسيرات شبه اليومية الرافضة لانقلابه، وأنهار الدماء التي تجري عندما يتصدى العسكريون لتلك المسيرات بالبارود، وبينما الجنيه السوداني يواصل سقوطه العمودي في مواجهة العملات الحرة، وبينما يرزح نصف سكان السودان تحت خط الفقر الذي تفاقم خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، ظل البرهان في حالة سفر شبه متصل بادئا بدولة الإمارات ومرورا بالسعودية ثم يوغندا ثم مصر ثم تشاد، بينما مساعده الفريق إبراهيم جابر ظل في حالة تطواف متصل في غرب ووسط إفريقيا.
وآية الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء هنا، هي أنه لا البرهان ولا كبار مساعديه من العسكريين يبذلون أي جهد للتواصل مع المواطنين الخاضعين لحكمهم، ويحسبون أن إسناد رؤساء بعض دول الجوار لسلطتهم الانقلابية يكفي لضمان لاستمرارهم في الحكم، ولا عليهم أن الشعب الذي يتحكمون في شؤونه ضاقت به سبل كسب العيش، فضاق بهم، لأنهم ينفقون قليل المال الموجود في خزائن البلاد لاستيراد قنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والماء الملون-الملوث (هذا مصدره إسرائيل) لإسكات معارضيهم، وهناك 92 شخصا تم اسكاتهم تماما بالقتل، بينما ناهز عدد الجرحى 3800، وزُجّ بأكثر من 300 شخص في السجون منذ انقلاب البرهان الأخير.
ولا أدلّ على جهل البرهان بأبسط أصول وقواعد التعامل مع الجماهير من أنه جعل من نائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) وهو جنرال افتراضي لا حظ له من علم مدني او عسكري، طليقا في الساحات والمنابر يبربر ويثرثر خائضا في أمور لا يفقه عنها كثير شيء كالاقتصاد والعلاقات الدولية والحكم الراشد، ثم يوزع الهبات حيثما ذهب بلغة: يا حاجب اعطه لاندكروزر وملئها من الجنيهات، فقد اضطلع حميدتي بمهمة إحياء القبلية، وتخليق زعماء قبائل ممن يأنس فيهم الانقياد له ولطموحه في الزعامة، وقبل أيام قليلة وقف خطيبا أمام حشد قبلي ليتباكى على ما حسبه عصرا ذهبيا لا كهرباء او غاز او دولار فيه، وكان الناس يولدون “في أمان الله” في بيوتهم وليس في المستشفيات، وما الى ذلك من أمور مستحدثة قال عنها إنها “كلام فاضي”.
قبل أيام قليلة قدم بيرتس تقريرا الى الأمم المتحدة تحدث فيه عن انسداد الأفق السياسي في السودان، بسبب لجوء العسكريين الى العنف المفرط تجاه معارضي حكمهم، ودعا الى ضرورة تكثيف الجهود وتهيئة المناخ للتوصل الى تسوية تقود الى قيام حكم مدني في السودان.
ولأن الجاهل الذي لا يدري أنه جاهل يتولى فضح نفسه، فقد كان حميدتي يخاطب ذلك الحشد القبلي مرتديا جلبابا أبيض فضفاضا، واسع الأكمام، ويلوح بكلتا يديه كما قائد أوركسترا، فإذا بالجزء العلوي من ذراعه مطوّق بالرقى والتمائم المكسوة بالجلد، كما كان يفعل أهل الجاهلية “الأصلية”، ولعله لم يسمع بالحديث الشريف: من علق تميمة فقد أشرك.
لوزير الدعاية في ألمانيا النازية، جوزيف غوبلز، مقولة مشهورة: “كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي”، ومنذ أن دخل البرهان وحميدتي مشهد الحكم في السودان، ظلت أقوالهما وأفعالهما تؤكد أنهما يسيئان الظن بالتعليم والمتعلمين والمثقفين، ولهذا لم يقف أي منهما قط أمام حشد مدني ما لم يكن بأكمله من القبليين الذين يسوقهم شيوخهم سوقا الى الساحات لتبييض وجوههم (وجوه شيوخ القبائل) حتى ينالوا الحظوة عند الحاكم، وذلك بموازاة العكوف على الاستقواء بمن يسمونهم شيوخ الطرق الصوفية، ويفوت على الجنرالين وهذه الفئة من الشيوخ أن المتصوف الحق يجعل بينه وبين اهل الحكم سدّاً.
ثم قرر البرهان الدخول في معركة مفتوحة ضد العلم والمعرفة والاستنارة، فأصدر مؤخرا فرمانا بعزل جميع مديري الجامعات الحكومية وحل مجالس تلك الجامعات، وكان أساتذة تلك الجامعات قد دخلوا في سلسلة من الإضرابات عن العمل لأن حكومة البرهان تنصلت من تعهد سابق بتحسين أجورهم، بل أبلغهم وزير المالية في الحكومة الانقلابية أن وزارته لا شأن لها بأجورهم (عَنَى بذلك أن توفر الجامعات موارد مالية لنفسها بفرض رسوم عالية على الطلاب)، وفور صدور الفرمان دخلت العديد من الجامعات في إضرابات مفتوحة كما تقدم عمداء كليات خمس جامعات ومعهم عشرات الأساتذة باستقالاتهم.
منذ نحو عامين يستضيف السودان بعثة أممية جاءت بطلب من السلطة التي تولت أمور الحكم عقب سقوط حكومة الرئيس السابق عمر البشير، لتساعد في تصريف شؤون الحكم الانتقالي المراد له أن يجري انتخابات حرة العام المقبل، وبمباركة من البرهان تولى رئيس تلك البعثة، فولكر بيرتس مهمة التوسط بين العسكريين والمدنيين للخروج من المأزق الذي نشأ بسبب انقلاب البرهان وانفراد العسكر بالحكم، وقبل أيام قليلة قدم بيرتس تقريرا الى الأمم المتحدة تحدث فيه عن انسداد الأفق السياسي في السودان، بسبب لجوء العسكريين الى العنف المفرط تجاه معارضي حكمهم، ودعا الى ضرورة تكثيف الجهود وتهيئة المناخ للتوصل الى تسوية تقود الى قيام حكم مدني في السودان.
هنا جن جنون البرهان وأزلامه، وقالوا عن الرجل الذي أوكلوا إليه مهمة التوسط بينهم وبين القوى المدنية، إنه “تدخل في الشؤون الداخلية” للسودان، مع أن مهمته الأصلية هي التدخل في تلك الشؤون، وتعلو الآن أصوات أبواقهم مطالبة بإبعاد الرجل عن السودان، ولعل البرهان يحسب أنه طالما يحظى بسند من نوع أو آخر من قادة بعض دول الجوار فما “حاجته للمجتمع الدولي”!.