جعفر عباس : استغربت ثم استعربت

سودافاكس ـ كان‭ ‬معروفا‭ ‬عنا‭ ‬نحن‭ ‬الطلاب‭ ‬النوبيين‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬التعليم‭ ‬الصعب‭ ‬أننا‭ ‬متفوقون‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬ويعزو‭ ‬البعض‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عقدتنا‮»‬‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬يلعب‭ ‬فيها‭ ‬التذكير‭ ‬والتأنيث‭ ‬دورا‭ ‬محوريا،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الإنجليزية‭ ‬كله‭ ‬سيم‭ ‬سيم،‭ ‬وفوق‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬فإن‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الأصوات‭ (‬الحروف‭) ‬العربية‭ ‬التالية‭: ‬ث،‭ ‬ح،‭ ‬خ،‭ ‬ذ،‭ ‬ز،‭ ‬ص،‭ ‬ض،‭ ‬ط،‭ ‬ظ،‭ ‬ع،‭ ‬غ،‭ ‬ق،‭.. ‬ولعلك‭ ‬تلحظ‭ ‬أثر‭ ‬اللسان‭ ‬النوبي‭ ‬عند‭ ‬المصريين‭ ‬والسودانيين‭ ‬الذين‭ ‬ينطقون‭ ‬الثاء‭ ‬سيناً،‭ ‬ويقولون‭ ‬إن‭ ‬المسلس‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬سلاسة‭ ‬أضلاع،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬فإن‭ ‬الانجليزية‭ ‬مثل‭ ‬النوبية‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬المثنى‭ ‬ولا‭ ‬التذكير‭ ‬والتأنيث،‭ ‬والجملة‭ ‬النوبية‭ ‬مثل‭ ‬الانجليزية،‭ ‬اسمية،‭ ‬بينما‭ ‬العربية‭ ‬فعلية‭ (‬تبدأ‭ ‬عادة‭ ‬بفعل‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬استثنائية‭ ‬كالمبتدأ‭ ‬والخبر‭)‬،‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬تعلقت‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬وصارت‭ ‬شغلي‭ ‬الشاغل،‭ ‬بل‭ ‬حسبت‭ ‬نفسي‭ ‬خواجة‭ (‬وهي‭ ‬مفردة‭ ‬نطلقها‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬ومصر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ذي‭ ‬بشرة‭ ‬فاتحة‭ ‬توصف‭ ‬بالبياض‭) ‬بدرجة‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬متخلفة‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬أتهكم‭ ‬على‭ ‬زملاء‭ ‬الدراسة‭ ‬الذين‭ ‬يبدون‭ ‬تفوقا‭ ‬في‭ ‬إعراب‭ ‬الجمل،‭ ‬وأعجب‭ ‬حد‭ ‬الغيظ‭ ‬عندما‭ ‬يقف‭ ‬أحدهم‭ ‬ليقول‭ ‬كلاما‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭: ‬الفاعل‭ ‬ضمير‭ ‬مستتر‭ ‬وجوبا‭ ‬منع‭ ‬من‭ ‬ظهوره‭ ‬التعذر،‭ ‬والـ«مش‭ ‬عارف‭ ‬إيه‮»‬‭ ‬مفعول‭ ‬به‭ ‬منصوب‭ ‬بالفتحة‭ ‬المقدرة‭ ‬على‭ ‬آخره‭.. ‬وفي‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الأناشيد‭ ‬التي‭ ‬تتغنى‭ ‬بالمطر‭ ‬والزهر‭ ‬والشجر‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬الشعر‭ ‬المُسبك‭: ‬المعري‭ ‬وشوقي‭ ‬وحافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬والبحتري‭ ‬وشعراء‭ ‬المهجر‭. ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬قصيدة‭ ‬شعب‭ ‬بوان‭ ‬للمتنبي‭ ‬فطربت‭ ‬لها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يشرح‭ ‬المدرس‭ ‬معاني‭ ‬مفرداتها‭ ‬وتعابيرها‭.. ‬واكتشفت‭ ‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي،‭ ‬ووجدت‭ ‬نفسي‭ ‬التهم‭ ‬قصائده‭ ‬التهاما‭ ‬وحفظت‭ ‬رائعته‭ ‬الطويلة‭ ‬‮«‬الطلاسم‮»‬‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬تكرار‭ ‬قراءتها،‭ ‬أي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أتعمد‭ ‬حفظها‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب،‭ ‬ووجدت‭ ‬نفسي‭ ‬فارسا‭ ‬في‭ ‬حلبات‭ ‬المطارحة‭ ‬الشعرية،‭ ‬وأهداني‭ ‬مدرس‭ ‬عرف‭ ‬بولعي‭ ‬بشعر‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬ديوانيه‭ ‬الجداول‭ ‬والخمائل،‭ ‬فحفظت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ضمه‭ ‬الديوانان‭ ‬من‭ ‬قصائد،‭ ‬وكما‭ ‬ان‭ ‬قراءة‭ ‬بعض‭ ‬الكتب‭ ‬الانجليزية‭ ‬أعطتني‭ ‬الإحساس‭ ‬بأنني‭ ‬خواجة،‭ ‬فإن‭ ‬قراءة‭ ‬بضع‭ ‬قصائد‭ ‬لشعراء‭ ‬كبار‭ ‬أعطتني‭ ‬الإحساس‭ ‬بأنني‭ ‬لست‭ ‬‮«‬أقل‮»‬‭ ‬منهم‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬أحسست‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬‮«‬شاعر‭ ‬تستخفه‭ ‬بسمة‭ ‬الطفل‭ ‬قوي‭ ‬يصارع‭ ‬الأجيالا‭… ‬خُلقت‭ ‬طينة‭ ‬الأسى‭ ‬فغشتها‭/ ‬نار‭ ‬وَجْدٍ‭ ‬فأصبحت‭ ‬صلصالا‭/ ‬ثم‭ ‬صاح‭ ‬القضاء‭ ‬كوني‭ ‬فكانت‭/ ‬طينة‭ ‬البؤس‭ ‬شاعرا‭ ‬مثَّالا‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬كلامي‭ ‬بل‭ ‬كلام‭ ‬شاعر‭ ‬السودان‭ ‬الكبير‭ ‬إدريس‭ ‬جَمَّاع‭ ‬الذي‭ ‬يحفظ‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬عربي‭ ‬قوله‭: ‬إن‭ ‬حظي‭ ‬كدقيق‭ ‬فوق‭ ‬شوك‭ ‬نثروه‭/ ‬ثم‭ ‬قالوا‭ ‬لحفاة‭ ‬يوم‭ ‬ريحٍ‭ ‬اجمعوه‭! ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬ينسب‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬إلى‭ ‬غيره‭.‬

بعد‭ ‬خروج‭ ‬الإنجليز‭ ‬من‭ ‬السودان‭ ‬بدأت‭ ‬لعبة‭ ‬الكراسي‭ ‬بين‭ ‬الأحزاب،‭ ‬وكنت‭ ‬ضمن‭ ‬غالبية‭ ‬الشعب‭ ‬أحس‭ ‬بالخيبة‭ ‬لأن‭ ‬الاستقلال‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬علينا‭ ‬بالخير‭ ‬الموعود،‭ ‬وهكذا‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬استولى‭ ‬العساكر‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬انقلاب‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البلاد‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬الصبي‭ ‬الخواجة‭ ‬المستعرب‭ ‬يقول‭ ‬شعرا‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬العسكر‭ ‬سيصلحون‭ ‬حال‭ ‬البلاد‭ ‬وقلت‭ ‬فيما‭ ‬قلت‭ ‬‮«‬وتقلب‭ ‬السودان‭ ‬كالحرباء‮»‬،‭ ‬كنت‭ ‬أقصد‭ ‬أن‭ ‬حال‭ ‬البلاد‭ ‬سينقلب‭ ‬من‭ ‬سيئ‭ ‬إلى‭ ‬أفضل،‭ ‬ولكن‭ ‬مدرس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬ان‭ ‬تلك‭ ‬الحكومة‭ ‬متقلبة‭ ‬المواقف‭ ‬والأهواء‭ ‬زجرني‭ ‬بقوله‭: ‬عايز‭ ‬تودينا‭ ‬في‭ ‬داهية‭.. ‬مش‭ ‬شغلك‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الحكومة‭ ‬حرباء‭ ‬أو‭ ‬جرباء‭.. ‬وبعدها‭ ‬جربت‭ ‬الشعر‭ ‬الغنائي‭ ‬وكتبت‭ ‬قصيدتي‭ ‬ذائعة‭ ‬الصيت‭ ‬‮«‬من‭ ‬نارك‭ ‬يا‭ ‬جافي‭ / ‬أنا‭ ‬طالب‭ ‬المطافي‮»‬،‭ ‬وتعرضت‭ ‬لضرب‭ ‬يرقى‭ ‬للتصفية‭ ‬الجسدية‭. ‬

وجئت‭ ‬إلى‭ ‬الخرطوم‭ ‬وسمعت‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬ساهل‮»‬‭ ‬أي‭ ‬سالك،‭ ‬وتقول‭ ‬كلماتها‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬فتاة‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬هاك‭ ‬قلبي‭ ‬أصنع‭ ‬منه‭ ‬لقميصك‭ ‬زراير‭/ ‬وهاك‭ ‬ثوبي‭ ‬لأوضتك‭ (‬غرفتك‭) ‬أعمله‭ ‬ستاير،‭ ‬ولم‭ ‬يتعرض‭ ‬من‭ ‬يغنونها‭ ‬للضرب‭ ‬ولم‭ ‬يطلب‭ ‬لهم‭ ‬أحد‭ ‬شرطة‭ ‬النجدة،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬قصيدتي‭ ‬استنجدت‭ ‬بكل‭ ‬براءة‭ ‬بجماعة‭ ‬المطافئ‭ ‬لأنه‭ ‬ليس‭ ‬عندي‭ ‬ما‭ ‬أخفيه‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬قليلة‭ ‬الحياء‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تطلب‭ ‬من‭ ‬حبيبها‭ ‬أن‭ ‬يستخدم‭ ‬ثوبها‭ ‬ستاير‭ ‬وليس‭ ‬ستارة‭ ‬واحدة‭

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.