جعفر عباس : عن الرياضيات وعقدتي منها
سودافاكس ـ بسبب عقدتي من ومع علم الرياضيات، (على زماننا في المدارس لم تكن كلمة رياضيات مستخدمة بل كان الاسم السائر هو “الحساب” مع ما للكلمة من دلالات مرعبة فمنها حاسب، يحاسب ومنها يوم الحساب والثواب والعقاب)، والمهم أنني كنت طوال مسيرتي الأكاديمية أعتبر من يحبون تلك المادة أشخاصا غير أسوياء و”غير طبيعيين”، كيف يحب شخص بالغ وعاقل وراشد أشياء مثل سين تربيع على ص أس خمسة تساوي صفر. ونظرية فيثاغورس وباي نق تربيع وجيب الظل وجيب التمام وجتا و”سأموت وفي نفسي شيء من حتى”؟،
وتأكدت من صحة شكوكي في محبي الرياضيات عندما كنت طالبا جامعيا، وكان لي زميل يتخصص في الرياضيات وذات يوم دعوته على كوب شاي في كافتيريا الجامعة فشكرني وأمسك بالكوب ثم أخرج سيجارة وأشعلها بعود كبريت ثم رمى الكوب بعد هزِّه برفق في سلة القمامة ووضع عود الكبريت المشتعل في فمه.
قبل حين من الزمان شهدت الأوساط العملية زلزالا حميدا وامتلأت الصحف ومواقع الانترنت وقنوات التلفزيون بأخبار عالم الرياضيات الروسي غريغوري بيريلمان الذي حل مسألة رياضية ظلت تحير العلماء على مدى أربعة قرون، وفور التأكد من صحة الحل قدم له معهد كلاي الأمريكي مليون دولار جائزة (كانت مرصودة على مدى سنوات طوال لمن يحل تلك المسألة).
قرأت عن تلك المسألة ولكنني لم أفهم منها وعنها شيئا ولا أريد أن أعرف عنها شيئا.
عندي ملاحظة: ظلت الكرة الأرضية تدور حول الشمس وظل الناس يمرضون ويتعالجون واخترعوا الانترنت وجهاز البلاك بيري والآيفون، ثم أخيرا طرحت شركة أبل جهاز آي باد الذي قيل إنه سيقضي على الكمبيوتر بشكله الحالي وظهرت انفلونزا الخنازير والطيور وسقط حكم طالبان في أفغانستان وصدّق الرئيس الأفغاني حامد كرزاي أنه رئيس فعلا وصار يسمي الأمريكان قوة احتلال، فأطاحوا به؛ ثم أطاح طالبان بوكلاء الأمريكان، ثم جاء فيروس الكورونا الديمقراطي الذي لا يميز بين غني وفقير أو أوروبي وأفريقي، وانتشرت محلات البيرغر في كل أنحاء العالم، ثم ظهر البوتوكس الذي يزيل التجاعيد عن الوجه ويجعل الوجه مثل قالب البلاط لا تظهر عليه علامات الحزن أو السعادة.
وحدث كل هذا والمسألة الرياضية تلك بلا حل وقطعت البشرية في العشرين سنة الأخيرة أشواطا أكثر من تلك التي قطعتها خلال الألف سنة الماضية، وتم كل ذلك دون الحاجة إلى تلك المسألة محلولة كانت أم مربوطة.
اتصل معهد كلاي بغريغوري وأبلغوه بالجائزة وحددوا له تاريخ الاحتفال لاستلامها، وجاء الموعد وانتهى ولم يظهر أبو الغراغير فاتصلوا به ثانية: خير يا رجل.. نعطيك مهلة فقط حدد لنا متى ستأتي لاستلام الجائزة.. أجابهم غريغوري: بلا جائزة بلا بطيخ.. مش عايز مليون ولا ملاليم.. اتركوني في حالي. غريغوري يعيش في قرية صغيرة نائية في روسيا في شقة من غرفة واحدة بها كرسي واحد وسرير واحد ونحو عشرين ألف صرصار حسب إفادة جارته التي قالت انه لا يرحب بزيارة البشر له، ولكن بيته مفتوح للصراصير والفئران.
جالكم كلامي؟ هل أنا على حق عندما أحسب أن أي شخص شاطر ومتفوق في الرياضيات فعلا شخصا غير طبيعي وغير سوي ويعمل مخه خارج الشبكة العامة (لأن لديه شبكة خاصة كلها لغريثمات)؟. في بلداننا يتم الإعلان عن جوائز سنوية في كل المجالات، ونقرأ عن شخص فاز بمئات الآلاف ببحث عن غزو المريخ بمحركات تعمل بزيت الفسيخ.. وآخر عن دراسة تاريخية معمقة عنوانها “الفلس أم الهلس تسبب في ضياع الأندلس؟”.. ويتم تسليم الجوائز في حفلات متلفزة، ولا ننسى خلال التغطيات الإعلامية لتلك المناسبات تذكير أنفسنا بأن أجدادنا اخترعوا الصفر.. الله يسامحهم.. يعني لو اجتهدوا أكثر واخترعوا التريليون أو حتى المليون “لما طلع علينا” جورج قرداحي في القرن الحادي والعشرين مزهوا بأنه أعاد اختراع المليون.
وأختتم حديثي هذا بالاعتراف بأنني أغبط وربما أحسد المتفوقين في الرياضيات بعد أن أدركت أن جميع الطفرات التي شهدتها البشرية في مجال الاتصالات والحوسبة والتكنولوجيا تعتمد على الرياضيات مائة في المائة.