جعفر عباس : الجلافة أعيت من يداويها
سودافاكس ـ لا أغضب إذا كنت أقود سيارتي ومرت بجواري سيارة أخرى وصاح سائقها في وجهي: ما تعرف تسوق سيارة يا حمار، بل ربما يضحكني مثل هذا السباب الفج، ولكن لو -مثلا- أخليت مقعدي في حافلة لشخص آخر تقديرا مني لأنه لا يقوى على الوقوف طوال الرحلة وجلس ذلك الشخص على مقعدي دون أن يقول لي شكرا فإنني أغلي من الغضب، وأردد كثيرا: لكل داء دواء يُسْتطب به / إلا الجلافة أعيت من يداويها، وما قاله الشاعر حقيقة هو أن «الحماقة» أعيت من يداويها، ولا شفاء منها، ولكنني أعتقد أن الجلافة أي قلة الذوق والفظاظة وعدم مراعاة مشاعر الآخرين من أسوأ الخصال التي يبتلى بها بعض الناس، وأعلم أنني خضت في موال الجلافة قبل نحو شهر تقريبا، ولكنني مضطر إلى العودة إليه لأنني قرأت شيئا رأيت أن أعرضه عليكم.
مجلة ريدرز دايجست من المطبوعات التي تستطيع أن تقرأها من الغلاف إلى الغلاف، (عندما كان العرب أمة تقرأ كانت هناك نسخة عربية منها تحمل اسم «المختار من ريدرز دايجست»)، المهم أن المجلة جاذبة لأن مواضيعها خفيفة ومتنوعة وشيقة، وتحفل بالعجائب والغرائب والطرائف (وبالمناسبة فإنها تمارس التبشير بالمسيحية بذكاء وتتخلل معظم محتوياتها وحكاياتها إشارات مبطنة إلى المعجزات التوراتية/المسيحية.
ومن حقك أن تتساءل: ولماذا تقرأها وأنت تعرف عنها ذلك؟ بسيطة: اللي عارف عزه مستريح، ولست مغفلاً «ينضحك» علي بشوية مقالات وحكايات، وعموماً فإنني أقرأ كثيرا لمن يخالفونني الرأي، ليس بمنطق «أعرف عدوك»، لأنني لا أعادي من يختلف معي في الرأي، بل أقرأ لهم بحثاً عن الحقيقة التي قد تكون غائبة عني، وأحياناً بحثاً عن مطاعن في فكرهم وآرائهم تعزز ثقتي بموقفي! ولهذا كثيرا ما أطالع ما يرد في صحف إسرائيلية مثل هاآرتس ومعاريف وجروزاليم بوست، ليس لأنني أثق بما تكتبه ولكن لأعرف وجهة النظر الإسرائيلية حول هذا الأمر أو ذاك).
ما علينا؛ ريدرز دابجست قامت بمسح طريف شمل 35 بلداً في مختلف القارات لمعرفة الشعب الأكثر تهذيباً (ومن ثم الأقل جلافة) في العالم، واتضح أن متوسط نسبة الذوق والتهذيب وحسن الأدب على المستوى العالمي تبلغ 55 بالمائة؛ يعني الأجلاف أقلية «كبيرة» لا يستهان بها لأنهم يشكلون 45 بالمائة من بني البشر، وجاءت مومباي (بومباي) الهندية في ذيل قائمة التهذيب والذوق، وأذكر أنني قلت لزميل عمل هندي إنني لاحظت خلال سنوات عيشي في منطقة الخليج أن الهنود هم أقل سائقي السيارات ذوقا في الشوارع، ولا يفسحون لك الطريق حتى لو كنت تحمل جنازة، فقال لأن قيادة السيارات في الهند لا تخضع لقانون مروري ولهذا فإن «القوي يأكل الضعيف»، وجاءت العاصمة الرومانية بوخارست على رأس قائمة الجلافة في أوروبا.
وكانت المجلة قد كلفت فرقاً في تلك الدول باختبار الناس في مجالات بسيطة مثل قول: شكراً.. من فضلك.. تفضّل.. إلخ، حيث ينبغي قولها، والإبقاء على الباب مفتوحاً لمن يمرون منه خلفك، الخ. وفي تقديري فإن ما يجعل نسبة التهذيب أعلى من نسبة الجلافة عالمياً هو أن الاستطلاع لم يشمل الدول العربية والإفريقية!!! أذكر أنني كنت أجلس داخل حافلة ركاب في الخرطوم عندما ركب في إحدى المحطات شاب توجه نحوي وقال: قوم خليني أجلس مكانك لأني تعبان.. ولأنني لم أواجه موقفاً كهذا من قبل فقد أخليت مقعدي لذلك الشاب الذي جلس دون أن يقول كلمة، فغضبت وفكرت في إرغامه على ترك المقعد طالما هو يستكثر علي حتى الشكر، ولكنني أدركت فجأة أنه طالما الرجل يتحلى بالجلافة وتكوينه الجسماني يسمح له بأن يفرمني ويقصم رقبتي بيد واحدة فـ«ما بِدَّهاش». يعني بلاش من حكاية التصدي له.
الغريب في أمر الاستطلاع أن نيويورك التي تشتهر بسائقي التاكسي الذين يتحلون بالجهالة وقلة الصبر جاءت على رأس قائمة المدن المهذبة، وقال عمدة المدينة إن ذلك يرجع إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي جعلت أهل نيويورك يدركون أن «الحياة قصيرة» ومن ثم فلا معنى لأن تكون عكر المزاج أو تعكر مزاج الآخرين.. في أوروبا جاءت العاصمة الكرواتية زغرب على رأس قائمة التهذيب، فلو سقط منك شيء هرع الناس لمساعدتك في رفعه أو جمعه وتسألهم عن الاتجاهات فيتوقفون ليعطوك وصفاً تفصيلياً.. وليس مثل صاحبنا الذي يقول لك: تروح سيدا وتلف عند المدرسة.. تلاقي دوار صغير تدخل منه يمين ثم أول زقاق يمين في يسار ولما توصل المسجد تعرف أنك ماشي غلط.