جعفر عباس : عن العيال والتنشئة (2)
سودافاكس ـ تكلمت بالأمس عن جانب من أمر تنشئة العيال، وقلت ما معناه إن الأبوة والأمومة أمران «مؤبدان» لا فكاك من المسؤوليات التي تترتب عليهما إلا بالموت والانتقال الى باطن الأرض أو بموات القلب، وقلت أيضا إنني صرت «أشيل» هم أحفادي: هل سيكونون فالحين وصالحين ويرثون عني وسامتي وحلاوتي (ما شاء الله) وهل سيكونون خائبين مثلي في علم الرياضيات والرياضة عموما
كثيرا ما أعود بذاكرتي سنين عددا وأتساءل: هل كنت حاسدا عندما كنت أرفض تلبية طلب لأحد عيالي رغم أنه لم يكن يكلفني شططا!! كان ذلك يحدث مثلاً عندما يرفض الواحد منهم الطعام الذي يوضع أمامه والذي يكون بالنسبة إلي في منتهى الترف والحلاوة ويطالب ببديل من مطعم: أُف كل يوم لحم وكفته؟.. يا أولاد الذين.. عندما كنت في مثل أعماركم لم نكن نعرف طعم اللحم في قريتنا إلا يومي الخميس والاثنين، وهما اليومان المحددان لـ«السوق»، ولم نسمع بالكفتة إلا بعد أن ضربوها في أم رأسها وفلطحوها وأسموها بيرغر، ونحن في العشرينات من العمر.
ومن الأشياء التي تثير اشمئزاز عيالي أن يروني وأنا أتناول قطعة لحم إكس لارج، وأشرع في التهامها، وقال لي أصغر عيالي ذات مرة، وكنت أفترس قطعة لحم من ذلك العيار فور انصراف ضيوف شاركونا المائدة: دونت آكت لايك أدوق، وإذا كانت معرفتك بالإنجليزية، كمعرفة جورج دبليو بوش بها، فإنني أوضح لك أن الولد الوقح لم يقل أنني دوق مثل «دوق أدنبره»، بل قال لي: لا تتصرف كالدوق الذي هو الكلب. وقد توقفت عن التصرف «لايك أ دوق»، ليس جبراً لخاطر ولدي، ولكن لأن أضراسي الصناعية كلفتني الكثير، وليس من العقل في شيء أن أضحي بها في سبيل قطعة لحم مهما كانت هشاشتها!!
كنت أرفض تلبية بعض طلبات عيالي وهم صغار- على بساطتها- لأنني لم أكن أريد لهم أن يعتقدوا أن كل طلباتهم مستجابة! وأكثر ما كان يضايق عيالي هو أنني – ومن فرط العيش في ظل أنظمة ديكتاتورية – كنت أستمتع بتطبيق حظر التجوال في بيتي في ساعة معينة من الليل، عندما تكون المدارس مفتوحة، فبعد العاشرة ليلاً كنت أتحول إلى حاكم عسكري: هس ولا كلمة.. أطفي النور.. طبعاً هناك الحيلة القديمة لتأخير موعد النوم بضع دقائق: ماشي الحمام!! ولكن أعلى جعفرون يا فرعون؟ صار هناك حظر على الذهاب إلى الحمام بعد العاشرة!! حاول أصغرهم مرة واحدة أن يؤخر أداء الواجب المدرسي حتى قبيل العاشرة بقليل، وهو يحسب أن ذلك سيعفيه من حظر التجول المعتاد، ولكنني منعته من أداء الواجب وكتبت رسالة إلى المشرفة على فصله الدراسي أوصيها بوضعه في الـ «ديتنشن»، وهو السجن لبعض الوقت خلال فسحة الإفطار، أو بعد نهاية اليوم الدراسي، وقد كان هذا النوع من العقوبة معمولاً به فيما مضى في مدارسنا الثانوية، وياما حبسوني في مدرسة «وادي سيدنا الثانوية»، وأرغموني على نسخ عدة صفحات من القاموس الإنجليزي بخط اليد.
ومع هذا لست واثقاً من أنني – بالجمع بين اللين والشدة – أنشأت عيالي بالطريقة الصحيحة، ولكنني واثق من أن من يطلقون العنان لعيالهم ليخرجوا ويدخلوا البيت متى وكيفما شاءوا، على خطأ، وأكبر أولادي تخرج في الجامعة ولكنه وقبل أن يغادرنا إلى السعودية ليشغل منصباً شبه محترم كان يعرف أن عليه أن يكون في البيت في ساعة معينة ليلاً أو نهاراً، أو أن يبلغني أو يبلغ أمه بأنه سيتأخر في العودة إلى البيت لسبب أو لآخر، ولم يكن هذا يضايقه لأنه لم يعد مشمولاً بحظر التجوال، ويستطيع أن يسهر «في البيت» على كيفه!!
وأعتقد أنني أب ديمقراطي إلى حد كبير، لأنني لست عنيفاً مع عيالي، ولا أثور إذا اعترضوا على نحو لائق على وجهة نظري أو حتى مسلكي، ولكنني أعترف بأنني «متخلف» في جوانب معينة بدرجة أنني أحشر أنفي حتى في اختيار عيالي لأصدقائهم، فإذا اشتبهت بأن صديقاً ما لأحد عيالي يحمل فيروس سوء السلوك، فإنني وبلا تردد أطلب منه أو منها، وبطريقة ممعنة في الديمقراطية، أن يتم قطع العلاقة به أو بها فوراً، وأختتم توجيهاتي الديمقراطية بعبارة كلها حنية وحنان: مفهوم وللا أفهمك؟