حتى الحرب لم توحدهم فهل ابتلي السودان بسياسييه؟
على رغم انخراط القوى السياسية السودانية في سلسلة مبادرات لإنهاء الحرب، منذ انطلاق الرصاصة الأولى للاشتباكات، إلا أن تحركاتها ومواقفها لا تزال متمترسة في تكتلاتها وتحالفاتها القديمة، من دون أي نوع من التقارب بين أفرقاء الأزمة السياسية ما قبل اندلاع الحرب، فلماذا لم تقرب مصيبة الحرب الشقة بين القوى والأحزاب السودانية، وقد درجت المصائب على جمع المصابين، وكيف سيكون واقع الحال السياسي بعد أن تنتهي المعارك؟ وهل ستعود البلاد للسيناريو ذاته من الخلافات؟
عمق الأزمة
محللون وباحثون سياسيون يعتقدون أن الأزمة السودانية في حقيقتها أعمق من أن تُختصر في الحرب الدائرة الآن بين الجيش وقوات الدعم السريع، ويربطونها بتاريخ طويل من الفشل في البناء المؤسسي لتلك الأحزاب، ويحملون خلافاتها مسؤولية تعطل مشروع الدولة الوطنية التي تعبر عن تنوع البلاد وأطياف مكوناتها المجتمعية كافة، بانخراطها في الصراع على السلطة منذ أول حكومة وطنية أنتجتها الانتخابات في 1953، ما أغرق البلاد في دوامة لا تنتهي من الصراعات السياسية.
كثير من المراقبين يعتقدون أن الواقع السياسي بعد حرب منتصف أبريل (نيسان) “العبثية” لن يكون كما هو قبلها وربما يفرض معادلات سياسية جديدة، تجعل التوافق حتمياً وفرضاً على الأحزاب في ما يخص إدارة الفترة الانتقالية.
في السياق، يرى المحلل السياسي، الرشيد محمد إبراهيم، أنه “بات واضحاً أن الحرب الدائرة الآن ستؤدي إلى تشكيل واقع سياسي وأمني وعسكري واقتصادي جديد، إذ إنه وبالنظر إلى مواقف القوى السياسية ما قبل الحرب، كان هناك تباعد واضح بين الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، و(الكتلة الديمقراطية) التي تضم معظم الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام والاتحادي الديمقراطي ومبادرة نداء السودان والتحالف الوطني، ومجموعات إسلامية”.
تباعد أكثر
توقع إبراهيم أن تزداد شقة التباعد أكثر بين الطرفين بعد توقف الحرب، لأن موقف تحالف الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، إن لم يكن كله فجزء كبير منه يكاد يكون موقفه متماهياً ومتحالفاً مع قوات “الدعم السريع”، ما يعني أن هزيمة حميدتي وسقوطه سيأخذ معه إلى الهاوية تلك القوى السياسية.
في المقابل، بحسب المحلل، فإن “موقف الحرية التغيير (الكتلة الديمقراطية) المعلن يبدو أكثر تفهماً للواقع الماثل الآن، بتأكيدهم قولاً وفعلاً أنهم ليسوا بأية حال طرفاً في هذه الحرب، ويجسد ذلك قرار القائد مني أركو مناوي حاكم دارفور رئيس حركة جيش تحرير السودان، ومغادرته مع قواته إلى دارفور، مع إعلانهم وتأكيدهم أنهم ضد كل من يعتدي على المواطنين المدنيين العزل، ما يُفهم منه ضمناً أن الكتلة الديمقراطية، تقف إلى جانب الأمن واستقرار الدولة السودانية وهو موقف أقرب إلى ما ينادي به ويعمل عليه الجيش في حربه ضد قوات الدعم السريع (المتمردة)”.
وأوضح إبراهيم، أن “الجيش يبدو منشغلاً حتى الآن بإنجاز هدفه الاستراتيجي في إخماد التمرد وسيتفرغ بعد ذلك للتعامل مع الدوائر الداخلية التي أعطت غطاءً سياسياً للعملية العسكرية”، قائلاً “بعد أن تضع الحرب أوزارها وينجلي غبار المعارك ستصبح الشقة أوسع والتباعد أكثر مسافة بين القوى السياسية قياساً على مواقفها من الجيش خلال أيام الحرب، إذ ستتمايز الصفوف تماماً بعدها من واقع أن المستقبل السياسي للبلاد سيحدده موقف الأطراف المتصادمة على الأرض أو هكذا يجب أن يكون”.
توافق حتمي
بدوره يرى الباحث السياسي، عبد اللطيف أبو العز، أنه “كان على القوى السياسية أن تترفع عن أجنداتها السياسية الخاصة في مثل هذه الأوقات الحرجة التي تعيش فيها البلاد حرباً مهلكة، والتوجه مجتمعة لتكون وسيلة ضغط مؤثرة أعلى صوتاً بدلاً عن التصرف ككتل مشتتة أو فرادى، للدفع بأي جهد يصب في اتجاه وقف هذه الحرب الكارثية التي وضعت البلاد على أخطر المنعطفات الفارقة في تاريخها”.
ويردف، “ما زالت قوى الاتفاق الإطاري، (قحت) المجلس المركزي، في جانب والرافضين له (الكتلة الديمقراطية) في الجانب الآخر، فيما يبدو أن الحرب لم تقرب المسافات بينهما على رغم أنهما أبرز أطراف النزاع والأزمة السياسية التي لا ينكر أحد أن تداعياتها هي التي أفرزت هذا الصراع المسلح”.
يتوقع أبو العز، أن تفرض تغييرات كبيرة نفسها على المسرح السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالبلاد ما بعد الحرب، بحيث تجد الأحزاب والقوى السياسية نفسها مرغمة على التواضع والتوافق على تأسيس عقد اجتماعي جديد.
يشير الباحث إلى أن أبرز ملامح العملية السياسية المنتظرة سيكون الاتساع والتوافق بحيث لن تعود حرفياً إلى مسارها السابق، لافتاً إلى أن دور مكونات تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، مهدد بالتضاؤل ما لم يبد مواقف أكثر انفتاحاً ومرونة لمواكبة مقتضى التوسعة السياسية المرتقبة.
يستغرب أبو العز، صمت بعض القوى عن عدم إدانة انتهاكات قوات الدعم السريع ضد المواطنين المدنيين الأبرياء، في ما يشبه التواطؤ، ما سيرتب عليها فاتورة سياسية واجبة السداد أمام قواعدها بعد انتهاء الحرب مستقبلاً، متسائلاً عن مبررات بعض القوى السياسية المدنية لصمتها عن إدانة مثل تلك الأفعال.
يأس التوحد
من جانبه، بدا عصام صديق، رئيس منبر حوار القوى السياسية، يائساً من أن توحد مصيبة الحرب، أو حتى تحدث نوعاً من التقارب بين القوى السياسية السودانية، واصفاً حالة التباعد والانقسامات التي تعتريها بأنها “متأصلة وليست غريبة عليها، إذ ظلت هي الأخرى في حالة حرب ضد بعضها البعض منذ فجر الاستقلال الأول، وكانت الخلافات هي السمة الأساسية الملازمة لها منذ نشأتها الأولى، وكانت حصيلة تلك التصدعات هي تتويجها بهذه الحرب العبثية”.
يشير صديق إلى أنه “لا مجال أو حل بعد توقف الحرب سوى تشكيل حكومة كفاءات تتجاوز خلافات ومحاصصات الأحزاب والقوى السياسية التي أغرقت البلاد في مثل هذا المستنقع الدموي نتيجة فشلها في التوافق لأكثر من أربع سنوات، بصورة دفعت بالبلاد إلى أتون مثل هذه الحلول العسكرية التي تمزق العاصمة وبعض أطرافها”.
يشدد رئيس منبر الحوار، على أن “جوهر مشكلة البلاد كان هو صراع الكتل السياسية على السلطة الانتقالية، باعتبار أن من يسيطر على السلطة ستقوى بالضرورة فرص نجاحه في انتخابات نهاية الفترة الانتقالية التي كانت محددة بمدة عامين وفق ما جاء في الاتفاق الإطاري”، مشيراً إلى أن “العيب لم يكن في الاتفاق الإطاري الذي بُني على أساس مسودة دستور لجنة تسيير نقابة المحامين، إذ وضع أسساً ممتازة حول كيف تحكم الفترة الانتقالية، بغض النظر عن الرأي في من وضعه”.
الحلول السياسية
وكانت القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري، قد رحبت بتوقيع القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على إعلان مبادئ جدة الذي يكفل حماية المدنيين ومعالجة القضايا الإنسانية الخميس 11 مايو (أيار) الجاري.
ووصفت في بيان لها، التوقيع بأنه خطوة أولى مهمة في طريق إنهاء الكارثة التي حلت بالبلاد، وخطوة تتطلب مزيداً من الجهد لاستكمالها وصولاً إلى وقف دائم لإطلاق النار ومن ثم حل سياسي شامل ومستدام.
حض البيان قيادة القوات المسلحة والدعم السريع على الالتزام بنصوص الاتفاق والعمل على الإسراع بتطويره لوقف دائم لإطلاق النار بأسرع ما تيسر.
من جانبها، اعتبرت الجبهة الثورية، إعلان مبادئ القضايا الإنسانية خطوة وقاعدة أساسية لانطلاق حوار المرحلة الثانية بين طرفي النزاع للتفاوض حول الوقف الدائم لإطلاق النار، ومن ثم مناقشة القضايا السياسية بمشاركة القوى المدنية من أجل الوصول لحل دائم وشامل.
دعت الجبهة في تعميم صحافي، أطراف النزاع، لتحمل مسؤولياتهم الوطنية والأخلاقية بضمان حماية المدنيين والعمل على تخفيف معاناتهم من خلال الالتزام الصارم بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه.
دعا المتحدث الرسمي باسم الجبهة الثورية، أسامة سعيد، جميع القوى السياسية بما فيهم طرفا الحرب لتغليب المصالح العليا للشعب السوداني حتى تتوقف المعارك تماماً ويذهب الجميع، مدنيون وعسكريون، إلى حوار تقدم فيه الحلول السياسية على العسكرية، باعتبار أن الأزمة سياسية وأن الحوار هو السبيل الوحيد لحلها لتجنب خراب السودان.
وكانت الأمم المتحدة أصدرت تقييماً قالت فيه إن القتال الذي اندلع في السودان في 15 أبريل الماضي، أودى بحياة مئات الأشخاص وجرح أكثر من خمسة آلاف شخص، ومحاصرة ملايين آخرين في منازلهم، انقطعت عنهم الخدمات الأساسية والرعاية الصحية.
وكشف رئيس مكتب جنيف التابع للأمم المتحدة، راميش راجا سينغهام، في مؤتمر صحافي، نهاية الأسبوع الماضي، أن ما يقرب من مليون شخص اضطروا إلى الفرار من منازلهم، ولجأ كثير منهم إلى البلدان المجاورة، معتبراً هذا الوضع بأنه يمثل أكبر عدد من النازحين على الإطلاق في السودان.
وأكد سينغهام أن أكثر من نصف سكان السودان، البالغ عددهم 25 مليون نسمة، يحتاجون الآن إلى حماية ومساعدات إنسانية فورية كوضع حرج وتحد هائل يواجه جهود الإغاثة، مشيراً إلى أن متطلبات التمويل لخطة الاستجابة له تبلغ نحو 2.6 مليار دولار، كأعلى مبلغ مطلوب على الإطلاق لأي نداء إنساني للسودان.
وتحول الصراع على السلطة في الخرطوم الذي بدأ كأزمة سياسية تخللها صراع وتجاذبات حادة حول إدارة الفترة الانتقالية تكللت بتوقيع اتفاق إطاري منقسم عليه سياسياً، تحول في 15 أبريل الماضي، إلى حرب دامية بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، مهدداً بجر البلاد إلى أتون حرب أهلية طويلة وأزمة إنسانية طاحنة باتت تهدد العاصمة السودانية التي لم تهدأ فيها المعارك منذ أكثر من شهر وحتى اليوم من دون أية بارقة أمل بتوقفها.
جمال عبد القادر البدوي صحفي سوداني