آية الكرسي.. فضل وتفسير أعظم آية في القرآن
آية الكرسي.. فضل وتفسير أعظم آية في القرآن
علي الصلابي
مؤرخ، فقيه، ومفكر سياسي ليبي
أردت أن أختم كتابي الجديد “المسيح عيسى بن مريم” بشرح أعظم آية في كتاب الله عز وجل، وكيف وصف الله سبحانه وتعالى ذاته لخلقه من خلال (آية الكرسي) التي هي أعظم آية في كتاب الله تعالى، إذ كل ما فيها متعلق بالذات الإلهية العلية، وناطق بربوبيته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه، فهذه الآية تملأ القلب مهابة الله وعظمته وجلاله وكماله، فهي تدل على أن الله تعالى منفرد بالألوهية والسلطان والقدرة، قائم على تدبير الكائنات في كل لحظة، ولا يغفل عن شيء من أمور خلقه وهو مالك كل شيء في السماوات والأرض.
وهذه الآية (الكرسي) لها شأن عظيم، فقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أفضل آية في كتاب الله عز وجل، قال تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون (254) الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم (255) لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256)﴾ (سورة البقرة). ويمكننا شرح هذه الآية العظيمة التي تحدث الله فيها عن نفسه عز وجل:
﴿الله لا إله إلا هو﴾:
أي: لا خالق ولا معبود بحق وصدق إلا (الله) عز وجل وكل ما سواه باطل أصلا، وهذه الآية أصل في التوحيد: واحد ليس له شريك، ولا نظير ولا وزير ولا مشير، ومعناه: النهي عن أن يُعبد شيءٌ غير الله. فهو الإله الحق الذي نسعى أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأليه له تعالى، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبَّرا فقيرا من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة.
(الله): الله دال على كونه مألوها معبودا تؤلهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا إليه في الحوائج والنوائب.
(الله): هو اسم علم دال على ذات الله تعالى رب العالمين، الإله المعبود حقا متصف بجميع الكمالات المطلقة التي لا تحصى ولا تحد ولا تستنقص، ومتنزها عن جميع العيوب والآفات ولم يتسمَّ بهذا الاسم غيره سبحانه.
(الله): هذا الاسم الجليل، تعلقت به جميع العوالم بذاتها وبأنواعها قال تعالى: ﴿يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد﴾ (فاطر:15) فجميع العباد يقولون: يا الله، دعاء أو سؤالا، نداء أو ذكرا أو مناجاة.
(الله): هذا الاسم هو جامع الأسماء الإلهية: الظاهرة والباطنة، على الوجه الذي لا نهاية له كما هو أهله سبحانه، لأن أسماءه تعالى على حسب صفات كماله وصفات كماله مالها نهاية، فأسماؤه ما لها نهاية، ولهذا الاسم الجليل خصائص وفضائل كثيرة مذكورة في الكتب المطولات.
﴿الحي القيوم﴾:
مدح الله تعالى نفسه بصفتين جليلتين جميلتين فقال: (الحي القيوم).
(الحي): الذي لا يموت، وهو الذي لم يزل موجودا وبالحياة موصوفا لم تحدث له الحياة بعد الموت، ولا يعتريه الموت بعد حياة، وسائر الأحياء سواء، يعتريهم الموت والعدم، فكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وتعالى.
(الحي): من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك.
والحياة التي وصف بها الإله الواحد هي (الحياة الذاتية) التي لم تأت من مصدر آخر، كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق، ومن ثم ينفرد الله سبحانه بالحياة على هذا المعنى كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ، ولا تنتهي إلى نهاية.
(القيوم): أي: دائم القيام بجميع شؤون الخلق، وهو القائم على كل شيء، فالله عز وجل قائم بتدبير خلقه في إيجادهم وأرزاقهم وجميع ما يحتاجون إليه.
(القيوم): هو الذي قام بنفسه وقام به غيره، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين، من فعله ما يشاء، من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء وسائر أنواع التدبير، كل ذلك داخل في قيومية الباري.
إن صفة (الحياة) متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة (القيومية) متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، هو اسم (الحي القيوم). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا اجتهد في الدعاء قال: يا حي يا قيوم.
﴿لا تأخذه سنة ولا نوم﴾:
هذا من تمام حياته وقيوميته، أنه تبارك وتعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم)، أي: لا يعتريه نعاس ولا نوم، لأنهما من أعراض البشرية، والله بخلاف ذلك.
(السِنة): ابتداء النعاس، ثم يصير نوما، و(النوم) أقوى من السنة، وإذا كان ذلك كذلك فإن نفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال (الحياة) ودوام التدبير، وإثبات لكمال (العلم)، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال.
﴿له ما في السماوات وما في الأرض﴾:
لما كان الله سبحانه وتعالى دائم القيام في ملكه، وليس لأحد معه تعالى فيه شركة ولا لأحد عليه سلطان، قرر عز وجل قيوميته هذه بقوله (له ما في السماوات وما في الأرض) أي: جميع من فيهما وما فيهما ملكه، يتصرف وحده بحكمته وقدرته وعنايته، وأن جميع عبيده وملكه تحت قهره وسلطانه.
﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه﴾:
أي: ليس لمخلوق كائنا من كان، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل: شفاعة ولا ضراعة عند الله عز وجل إلا برضاه وبعد إذنه، فإن (الشفاعة) كلها لله وحده، وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه له في الشفاعة. إن الله تعالى لا يشفع عنده أحد بحق وإدلال، لأن المخلوقات كلها ملكه ولكن يشفع عنده من أراد سبحانه أن يظهر كرامته عنده، فيأذن له أن يشفع فيمن أراد.
﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾:
أي أن الله عز وجل عالم بكل ما في السماوات وما في الأرض من شؤون خلقه، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومن أمر الدنيا والآخرة، والمقصود من ذلك: عموم العلم بسائر الكائنات في الأرض وفي السماوات. وأن الله عز وجل عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه حتى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء تحت الأرض الغبراء، وحركة الذرة في جو السماء والطير في الهواء والسمك في الماء، فلا تخفى عليه غائبة في الأرض ولا في السماء ولا ما بينهما، فهو عالم بخفايا وأسرار ملكه ومخلوقاته سبحانه وتعالى.
﴿ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء﴾:
أي: لا يدركون من العلم أو المعرفة إلا بقدر ما عرفهم به أو مِنه رب العالمين، الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فآتاهم الله من علمه ما شاء وكما شاء، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بمشيئة الله وتعليمه، فما عرفه الإنسان من عالم الغيب وما عرفه الإنسان من عالم الشهادة وقوانين هذا الكون وكيفية تسخيره هو بمشيئة الله وتعليمه، فهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم وهو الذي علم كل شيء ما علم.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على سعة علم الله عز وجل وأنه محيط بكل شيء قل أو أكثر صغر أو عظم، كما جاء تحديدا في سورة يونس ﴿وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتب مبين﴾ (يونس:61). إن علم الله تعالى محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء، ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم الله تعالى.
(العلي): الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص أو المتنزه عن صفات المخلوقين.
﴿وسع كرسيه السماوات والأرض﴾:
إن الكرسي هو كناية في الآية عن عظم العلم وشموله واتساعه، وتفسيره بعظم السلطات يتناسب مع قوله تعالى بعد ذلك: (ولا يؤوده حفظهما) وتفسيره بمعنى شمول العلم يتناسب مع قوله سبحانه قبل ذلك (ولا يحيطون بشيء من علمه) ولذلك يصح أن تقول إن قوله تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض) كناية عن عظم قدرته ونفوذ إرادته وواسع علمه وكمال إحاطته، وقد فسر عبد الله بن عباس أن (كرسيه) علمه، وهو كناية عن سعة الملك وسعة العلم.
وهذه الصورة تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا وثباتا، فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك، فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه، وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية، ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير المحسوس أثبت وأمكن. تأتي (وسع كرسيه السماوات والأرض) لتقرير ما تضمنته الجمل كلها من عظمة وكبرياء وعلم وقدرة في حق الله عز شأنه وجل في علاه ولبيان عظمة خلقه في مخلوقاته الكبيرة والصغيرة الظاهرة والباطنة في الأرض وفي السماء، المستلزمة عظمة شأنه، وإظهار سعة ملكه.
﴿ولا يؤوده حفظهما﴾:
أي: أن الذي خلق ما في السماوات وما في الأرض من مخلوقات كثيرة، لا يشق عليه عز وجل حفظها ولا يعجز عن رعاية ما أوجده فيهما ولا يثقله تعالى تسيير شؤونهما حسبما قضاه وقدره فيهما، فسبحان من تقوم السماء بأمره وتدور الأرض بوحيه، رفع الجبال وأجرى الأنهار وحرك الهواء وشق الحب وأخرج الثمار، والوجود قبضته وكل ما فيه إنما إرادته، لا تعصيه سماء ولا تخرج عن طاعته أرض ولا سحاب.
﴿وهو العلي العظيم﴾:
أي أن الله تعالى فوق خلقه، فلا يعلو الى مقامه الرفيع أحد، وهو أيضا الكبير ذو الهيبة والجلال المتعالي بعظمته جل جلاله على كل عظيم.
(العلي): الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص أو المتنزه عن صفات المخلوقين.
(العلي): يفسر بأنه أعلى من غيره قدرا، فهو أحق بصفات الكمال، ويفسر بأنه العالي عليهم بالقهر والغلبة فيعود إلى أنه القادر عليهم وهم المقدورون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح دعاءه: سبحان ربي العلي الوهاب، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد -أي في صلاته- قال: سبحان ربي الأعلى (ثلاثا).
(العظيم): الذي قد كمل في عظمته، فهو عظيم في ذاته وصفاته، فذاته العلية جلت عن المشابهة وهو الخالق القاهر القادر، وهو وحده الإله المعبود بحق، وهو الذي يسبح كل شيء في الوجود بحمده فهو العظيم وحده والمعبود وحده المعظم وحده، وإذا كانت غواشي الحياة قد أضلت الأكثرين فلم يدروا عظمته في الفانية فستنجلي لهم عظمة ذي الجلال في الباقية.
هذان هما الوصفان الشاملان (وهو العلي العظيم) لكل الأوصاف السابقة، فالله سبحانه وتعالى هو العلي العظيم. إذن هذه آية الكرسي، أعظم آية في كتاب الله، كما ورد في بعض الآثار المثبتة في الصحاح، وإنها لتدل على وحدانية الله بكل شعبها، فقد دلت على:
وحدانية الألوهية بقول الله تعالى (الله لا إله إلا هو).
وحدانية الخلق والتكوين فلا خالق مع الله تعالى، ولا إرادة تمنع إرادته وقد دل على ذلك أكثر ما في الآية الكريمة كقوله سبحانه: (الحي القيوم)، وقوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض).
وحدانية الذات والصفات، بمعنى أن الله لا يشبهه شيء، أو أحد من خلقه، قال تعالى (ليس كمثله شيء) وقد أشار إلى ذلك بقوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) وبقوله تعالى: (وهو العلي العظيم) تعالى الله رب العالمين علوا كبيرا تولانا الله سبحانه بعنايته وتوفيقه وهدايته.
الجزيرة