مساعدة حميدتي للسيطرة على السلطة في السودان؟
في فبراير/شباط 2022، هبطت طائرة حميدتي في موسكو، وهو مثقل بأحلام سلطوية يبحث عمن يدفعها معه إلى الأمام، وقد وجد في زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين حليفاً استراتيجياً، أو بالأحرى كلاهما وجد ضالته في الآخر. لا سيما أن لروسيا وجنرالاتها غرام مع قادة الميليشيات، ولا يمكن بأي حال أن تتحالف مع قوى ديمقراطية تصغي لصوت الشعب، وتعترض مخططاتها في إفريقيا.
النفوذ مقابل الذهب
النفوذ السياسي مقابل الذهب، تحت هذه الصيغة التعاقدية تشابكت خيوط العلاقة التي جمعت بين فاغنر والدعم السريع، وقد ظهر ذلك جلياً في عمليات التنقيب الوحشية وصناعة الفوضى في السودان وبعض دول الجوار، لكن ما ظل خافياً أن يفغيني عمل بجد، منذ نحو أربعة سنوات، على تنصيب حميدتي رئيساً للسودان، وزوده بالأسلحة وحصص التدريب القتالية مقابل احتكار ونهب ذهب السودان.
كان حميدتي متحمساً لمنح روسيا كل ما تريده، بما في ذلك مساعدتها على إنشاء قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر، وهي خطوة رفض البرهان تأييدها بالكامل وترك أمر البت فيها لحكومة مُنتخبة. وخلال المحادثات في موسكو طلب حميدتي المساعدة من المسؤولين الروس للحصول على معدات عسكرية، بهدف بناء قوة موازية للجيش السوداني، دون أن يضيره ذلك من تقديم نفسه، في مرحلة لاحقة، مناضلاً من أجل الديمقراطية!
بموت زعيم فاغنر المؤكد والاختفاء الغامض لحميدتي، أو مقتله أيضاً، وفقاً لشكوك عديدة قوية، تبرز أسئلة مهمة حول ما يمكن أن يحدث، خصوصاً مع تركة الرجلين، فاغنر والدعم السريع، والثروات الهائلة التي هي تحت تصرفهما، ومصير الشراكة التي تطورت بمعزل عن حكومات البلدين، هل ستؤذن بنهاية حزينة؟
خلال الأيام الماضية نشرت صحيفة وول ستريت جورنال تقريراً عن الأيام الأخيرة لزعيم فاغنر يفغيني بريغوجين في إفريقيا وعلاقته بالدعم السريع، وكشفت عن هبوط مروحية تابعة لشركة فاغنر في مكان قريب من بانغي عاصمة إفريقيا الوسطى وعلى متنها خمسة قادة من قوات الدعم السريع، التي تشن حرباً بلا هوادة ضد السودانيين. وكان الوفد، وفقاً للصحيفة، قد سافر إلى بانغي من إقليم دارفور المضطرب حاملاً هدية لبريغوجين، الذي زودهم بصواريخ أرض جو، تلك الهدية الغالية كانت عبارة عن سبائك ذهبية.
في اليوم التالي رحب زعيم فاغنر بقادة قوات الدعم السريع، وبينما كانوا يسلمون الذهب المعبأ في صناديق خشبية من منجم في دارفور، قال أمير الحرب بريغوجين لضيوفه “أحتاج إلى المزيد من الذهب”.
فاغنر تحت الخدمة
طوال السنوات السابقة كانت فاغنر المخلب الرئيسي للقوة الغاشمة والنفوذ الروسي في السودان، وسعت بقوة للسيطرة على الموارد، وصناعة نوع من الفوضى والانقلابات تسمح لها بالتحرك تحت دخان المعارك، والاستئثار بالجنرالات الساعين للسلطة والمجد، وقد وجدت فاغنر حليفها بالفعل وتعهدته بالرعاية، لا سيما أنه يقود قوة من عربان الصحراء، تنتشر في أكثر من دولة، هي نفسها الدول التي توجد فيها قواتها، وتسعى للسيطرة على مواردها.
لكن تلك المطامع تواجه عقبات بالضرورة، مثل الجيوش النظامية، والقوى السياسية الوطنية، ما حدا بمدرسة فاغنر لتجهيز حميدتي لمقعد الرجل الأول، بموجب حصص تركيز نوعية، ولذلك أصبح دقلو شديد الاعتناء بنفسه، محاطاً بحراسة مُشددة، يتحدث عن الثورة والمظالم التاريخية، والقتال من أجل الحرية، وغيرها من الشعارات، ملوحاً بالحرب لتصحيح تلك الصورة، وقد تمرد على الدولة بالفعل دون أن يكترث إلى أن تكلفة تمرده ستكون فادحة جداً.
اعلان
بالرغم من عدم اعتراف يفغيني بأي دور له في الصراع السوداني، إلا أن موته أثار موجة حزن لدى أنصار الدعم السريع، وكان رحيله بمثابة خسارة لحليف لا يتورع أبداً عن تقديم يد العون، مثل توفير الأسلحة وتدريب قوات الدعم السريع على حرب المُدن، وإعداد الخطط العسكرية المتقدمة، وهو ما كشف عنه حميدتي قبل الحرب عندما هدد بأنهم سيلقنون ضباط الجيش السوداني دروساً لم يتلقوها في الكلية الحربية. فضلاً على ذلك ظلت خطوط الإمداد مفتوحة مع المناطق التي تسيطر عليها فاغنر في ليبيا وإفريقيا الوسطى، وقد زودت بالفعل قوات حميدتي بصواريخ أرض جو، عززت بها قوتها الدفاعية في مواجهة الطيران الحربي السوداني، مما تسبب في تأخير معركة الحسم.
آخر المغامرات
عملت فاغنر من الأول على ضمان تنامي نفوذ حميدتي في السودان، سياسياً وعسكرياً، وقد صعد بفعل رافعة خفية لرئاسة اللجنة الاقتصادية في الحكومة الانتقالية، وقيادة وفد التفاوض مع الحركات المسلحة في جوبا، وأصبح رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك تحت أوامره المباشرة، لينقلب عليه حميدتي لاحقاً، وبدأ منذ ذلك الوقت يمني نفسه بالحكم المطلق لبلاد النيلين، وأصبح يطلق عليها لقب الأمير وسط أنصاره بدلاً عن القائد، وفي سبيل هدفه خلق علاقات مع القوى السياسية، واشترى ولاءات بعض رجال الأعمال والناشطين والإدارات الأهلية، وكان ينهي ويأمر كما لو أنه رئيس السودان بالفعل، بل ذهب يتحدث عن ضرورة هيكلة الجيش السوداني، واحتلّ مطار مروي العسكري بأكثر من مائة سيارة مدججة بالمدافع والجنود، بصورة خاطفة، وفي ذلك اليوم أسقطت فاغنر صواريخ أرض جو على مواقع ميليشيا دقلو شمال غرب السودان، ليواصل بها القتال، وكان الدعم السريع هو المتلقي الأول في السودان لأسلحة موسكو وتدريباتها، مقابل فتح الأراضي السوداني لاستثماراتها وتحقيق الأرباح الهائلة من مناجم الذهب في شمال وغرب السودان.
تركزت الهجمات التي شنها حميدتي للسيطرة على السلطة حول محيط سكن البرهان في بيت الضيافة، وأدار عمليته العسكرية بالتنسيق مع فاغنر التي لم تتخل عن حليفها في الأيام الأولى، وبعد فشل الخطة تراجعت قليلاً، دون أن تمضي في اتجاه معاكس، ولربما أعاق مخطط تنصيب حميدتي إصابته في معارك الخرطوم، تلك الإصابة القاتلة التي أفقدته السيطرة على قواته، وجعلت فاغنر تعيد حسابتها، لكنها تورطت بالفعل في هذه الحرب، وقد كانت تلك آخر مغامرات يفغيني في السودان قبل أن تتحطّم طائراته وأحلامه أيضاً، وكذلك أحلام حميدتي.
عزمي عبد الرازق
كاتب وصحفي سوداني