الرضيع الناجي.. أطفال السودان في جحيم الحرب
“في البحيرة، لم يكن ما يرى على مدى البصر سوى الماء. فيض من المياه يتمدد حتى يظن المرء في لحظة أن السماء انطبقت على الأرض، وأن الأبعاد تساوت، متكورة ومتبلورة، تهدد بالتلاشي والضياع. الطفل الرضيع بين يدي الأب. المركب يهتز ويرتج بفعل الأمواج. الشمس حارقة، وعينا الرضيع أبيضتا. هل مات؟ يتساءل الأب وجلًا، بينما الأم تكاد يغمى عليها من الآلام، فالجرح لا يزال حديثًا، والولادة لم يمض عليها سوى (26) يومًا هي عمر الرضيع. هل مات؟ يتساءل الأب. هل قدر له الموت هنا بعد أن تجاوز كل الصعاب، وعبر صوب بر النجاة؟”.
قبل 5 أيام
يحكي السيد “ي. ه”، والد الرضيع الناجي لـ ألترا سودان: كنا قد بدأنا الإعداد للاحتفال بسماية المولود (العقيقة)، بعد أن تأخرت لأيام بسبب الظروف الصحية لوالدته، فقد أنجبته إثر عملية قيصرية حساسة. كنا نسكن حي المهندسين في أم درمان، البيت كان مثل خلية النحل. جدة المولود من جهة أمه وخالته حضرتا خصيصا لإسناد الأم ورعايتها والآن تتحركان بنشاط محموم للإعداد لمناسبة السماية. كيف تحول كل ذلك الفرح والابتهاج بين يوم وليلة إلى كابوس أوشكنا معه أن نفقد أرواحنا، وأولها روح رضيعنا الذي لم يع بعد ما الحياة، وما البلاد وما السودان.
أطفال الحرب
قد تكون قصة الطفل الرضيع الذي صادف مولده الشرارة الأولى للقتال مؤشرًا عامًا عما جرى لأطفال السودان بعد اشتعال الحرب واستفحالها خلال الأشهر التسعة الماضية
قد تكون قصة الطفل الرضيع الذي صادف مولده الشرارة الأولى للقتال مؤشرًا عامًا عما جرى لأطفال السودان بعد اشتعال الحرب واستفحالها خلال الأشهر التسعة الماضية، فبمراجعة أحدث تصريحات رئيسة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف)، السيدة مانديب أوبريان، نجدها تقول إن الحرب إذا استمرت في السودان فستشهد البلاد ما وصفته بـ”كارثة جيلية”، أول ضحاياها (24) مليون طفل سوداني، مشيرة إلى أن النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع يعرض صحة أطفال السودان للخطر مما يهدد مستقبل البلاد، وينذر بعواقب وخيمة على المنطقة بأسرها.
وكانت منظمة اليونسيف قد ذكرت بعد اجتياح قوات الدعم السريع لمدينة ود مدني، أن “نحو ثلاثة ملايين طفل في ولاية الجزيرة معرضون للخطر نظرًا لتصاعد العنف، كما أشارت إلى نزوح (150) ألف طفل على الأقل في الولاية وانقطاع المساعدات الإنسانية العاجلة عنهم”.
سوق ليبيا
يواصل السيد “ي. هـ” والد الطفل الرضيع سرد تفاصيل رحلة المعاناة التي واجهتم بعد أيام من ولادة ابنه، ويقول: “استيقظنا الصباح على أصوات الرصاص ودوي المدافع. لم تكن الاتصالات قد توقفت بعد. أجريت اتصالًا بأحد الأصدقاء، شاهدت القنوات الفضائية، وبما أنني صاحب تجربة معمقة مع الحروب السودانية الداخلية، وما تجره من ويلات على المواطنين، فكان قراري سريعًا ولا تراجع فيه. قلت لهن:
أجمعن ما خف وزنه، والآن الآن سنخرج من هذا المكان.
صاحت الجدة:
والطفل؟
قلت:
لأجله سنخرج لن نبقى هنا ولا يوم آخر.
تحركنا في ذات الساعة. ثلاثة نساء، إحداهن تعاني من آثار عملية قيصرية، وأخرى شابة صغيرة مرعوبة، أما الأخيرة؛ فامرأة مسنة، هي الجدة وبين يديها المبسوطتين في ارتعاش يرقد الرضيع غير مدرك لما يجري من حوله. لف بنا صاحب الركشة عبر طرق وأزقة لم أكن أعلم بها رغم سكني في هذا المكان لسنوات طويلة. أصوات الرصاص لا تزال تتردد، والناس في الشوارع يبدون هلعين، تراهم عائدين محملين بالأكياس المملوءة على ما يبدو بالمواد التموينية استعدادًا لأيام عزلة طويلة قادمة.
في سوق ليبيا، لم يكن هناك أحد سوانا، وباص متهالك يقف متأهبًا للفرار وجواره رجل شاحب يتلفت في ذعر. أنزلنا سائق الركشة وأسرع عائدًا في اتجاه الأزقة والشوارع التي يظنها آمنة. الوقت كان لا يزال مبكرًا. الثانية عشرة ظهرًا. قال صاحب الباص:
سعر التذكرة مئة وخمسون ألف جنيه.
قطعت ثلاث تذاكر دون تردد وسألته عن بقية الركاب.
قال سيأتون بعد قليل.
حين جاء بقية الركاب كان الوقت قد بلغ التاسعة ليلًا. كانت الأم تعاني من آلام بطنها وآثار جرحها، وكان الرضيع يصرخ ممتعضًا كلما لفحه الهواء الساخن المحمل بالروائح الكريهة. تبادلت النسوة حمله. الأم ترضعه، والجدة تدندن له بالأهازيج بينما الخالة المرتعبة تهزه محاولة إنامته. جاء الليل ولم يتحرك الباص. قال السائق:
هذه مخاطرة كبرى. لن أتحرك في الظلام. السفر عند الصباح.
نمنا على الأرض يومنا ذاك. شكلنا دائرة ثلاثية، ووضعنا الأم ورضيعها في قلبها. هل نام أحد تلك الليلة؟
أطفال المايقوما
تبدو مأساة ما يعرف بـ “أطفال المايقوما” مضاعفة بعد نشوب الحرب. فالمشاكل التي كانت تحوط هؤلاء الأطفال تفوق احتمال أعمارهم الصغيرة، وجزء كبير من هذه المشاكل متعلق بالإشكالات المالية والتمويلية المتعلقة بتشغيل ورعاية الدار التي تؤوي هؤلاء الأطفال من فاقدي السند في منطقة المايقوما، التي أخذ منها الاسم وتم قرنه بالصغار. تأسست الدار عام 1961، وتحول -الاسم- مع الزمن إلى ما يشبه الوصمة، وتلك مشكلة اجتماعية أخرى تضاف إلى المشاكل السابقة.
لقرابة الشهرين، الظروف التي واجهها أطفال المايقوما كانت قاسية ومرعبة عانوا خلالها من الإهمال والجوع وانعدام الرعاية الصحية
مع نشوب الحرب في نيسان/أبريل الماضي كان عدد الأطفال في دار المايقوما يبلغ حوالى (400) طفل أكثرهم من الرضع، يواجهون أقسى الظروف الصحية والتغذوية، التي تفاقمت بلا شك بعد الحصار الذي فرضه واقع الحرب على مناطق كثيرة من الخرطوم، مما حرم هؤلاء الأطفال والرضع خاصة من الحصول على الدعم والتبرعات التي كانت تأتي إلى الدار بشكل أساسي من الخيرين ورجال البر والإحسان وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني الشبابي ذات البعد الخيري. لقرابة الشهرين، الظروف التي واجهها أطفال المايقوما كانت قاسية ومرعبة عانوا خلالها من الإهمال والجوع وانعدام الرعاية الصحية، إذ توفي منهم خلال تلك المدة نحو (60) طفلًا بينهم (20) رضيعًا، حسب تصريحات إعلامية للمديرة الطبية للدار.
وفي حزيران/يونيو الماضي، بعد شهرين من اندلاع الحرب، تمكنت إدارة الدار بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة اليونسيف، وعدة جهات داخلية من إخراج الأطفال (300) طفل إلى مدينة ودمدني بإقليم الجزيرة في عملية إجلاء محفوفة بالمخاطر لكنها ناجحة. وهناك في المدينة الجديدة وبعد عملية استقرار نسبية مشمولة بالرعاية وعمليات الإسعاف المالي والصحي، أعادت الأطراف المختلفة المسؤولة عن الدار ورعايتها، سواء أكانت حكومية، أو أممية أو أهلية؛ فكرة أن يتم تفكيك الدار بالكامل، وتعميم تجربة بقية ولايات السودان باعتماد ما يعرف بـ”البيوت البديلة”، أو الأمهات البديلات، وهي تجربة ناجحة من حيث الرعاية والمتابعة وتجنب الأطفال الكثير من المشاكل بما فيها الاجتماعية المتصلة بالوصمة والعار.
في يوم 18 كانون الأول/ديسمبر الماضي هاجمت قوات الدعم السريع مدينة ومدني، ليواجه أطفال المايقوما من جديد مأساة الحصار والعزل ومخاطر الترحيل من مدينة إلى أخرى في ظروف قتالية بالغة التعقيد، ولتقطع أيضًا الطريق أمام إنفاذ فكرة “الأم البديلة”، الوسيلة الأمثل لاستيعاب هؤلاء الأطفال مجتمعيًا، مثلما صرح لـ “الترا سودان”، أحد موظفي الشؤون الاجتماعية بولاية الخرطوم.
رحلة الأهوال
يستمر والد الطفل الناجي في روي ما حدث لهم بعد تحرك الباص السفري من أم درمان، ويحكي عن رحلة من الأهوال والمتاعب والتهديد بالموت، التي ابتدأت منذ خروجهم من العاصمة الخرطوم تحت وابل من النيران المتبادلة بين الطرفين المتقاتلين، وإلى المعاناة غير المحتملة للسفر الشاق لأم حديثة الولادة، ولرضيع حرم من الرضاعة الطبيعة بغتة جراء الظرف الصحي الحساس الذي تمر به والدته.
ابني أول طفل سوداني تستخرج له “وثيقة سفر طارئة” وأول طفل يسافر إلى مصر بهذه الوثيقة
يقول: بعد يومين من التعب والإرهاق والخوف من فقدان الطفل أو أمه في أي لحظة بسبب الظروف غير الملائمة لا صحيًا ولا غذائيًا، وصلنا إلى مدينة وادي حلفا، وهناك بدأت رحلة جديدة من المعاناة، كان علينا أن نواجهها نحن الثلاثة بعد أن رفضت سلطات الميناء منح الطفل تأشيرة دخول لأنه بلا أوراق رسمية، فلم نستطع وقتها بالطبع أن نستخرج له لا رقم وطني ولا جواز، وكل ما كان لدينا شهادة ميلاده فقط. سمحنا للجدة وخالة الطفل بالسفر، لأنه من الصعب أن تظلا معنا ومواردنا المالية القليلة في نقصان ولا جدوى من انتظارهما في ظل ظروف ضاغطة في هذه المدينة الغريبة، لاسيما أن مصيرنا نحن الثلاثة أصبح طي القدر. في الفندق لأول مرة ينام الطفل بعمق بعد أيام من العذاب والجوع، أمه باعت سوار ذهب لنشتري له لبنًا خاصًا بالرضع، وحتى نستعين ببقية المبلغ في تسديد رسوم الإقامة ونفقات الطعام. لأسبوع كنت أهبط يوميًا صوب مبنى الجمارك استطلع الأمر إلى أن فوجئت ذات يوم بضابط الشرطة يخبرني بأن هناك قرارًا جديدًا قد صدر، وأنني من المحظوظين، إذ نص القرار باستخراج “وثيقة سفر طارئة” للاجئين السودانيين الفارين من الحرب، والسماح بإضافة الأطفال في جواز الأم، ليكون ابني بذلك أول طفل سوداني تستخرج له “وثيقة سفر طارئة”، وأول طفل يسافر إلى مصر بهذه الوثيقة.
بانر الترا سودان
قد يكون الطفل “ن. ي”، من الأطفال المحظوظين حقًا لنجاته من حرب السودان، رغمًا عن الأهوال التي كادت أن تقضي عليه وعلى والديه. إلا أن واقع أطفال السودان عامة مظلم ومقلق. منظمة اليونسيف أشارت في تقارير لها إلى أن (1.6) مليون طفل وطفلة نازحين بحاجة إلى مساعدة بما فيهم من يعيشون في المناطق المتضررة من النزاع. وأن (61%) من الأشخاص النازحين داخليًا في المخيمات هم من الأطفال. و(65%) من اللاجئين تقريبًا في السودان هم أطفال. يعاني الكثير منهم من الصدمة قبل وأثناء رحلتهم إلى السودان، مما يعرض الأطفال لخطر أكبر من الإيذاء والاستغلال والعنف. ويشكل الأطفال حوالي (60%) من عدد الأشخاص النازحين.
الترا سودان