حرب الخرطوم.. هل تعلن نهاية النسخة الورقية من الصحافة السودانية؟
حرب الخرطوم.. هل تعلن نهاية النسخة الورقية من الصحافة السودانية؟
_ العبيد الطيب عبد القادر _
أدت الحرب التي اندلعت في السودان في الخامس عشر من إبريل ٢٠٢٣م بين الجيش ومليشيا الدعم السريع إلي تعطيل كل الأجهزة الإعلامية الموجودة في العاصمة الخرطوم، حيث توقفت الصحف عن الصدور وتوقف بث القناة الرسمية (تلفزيون السودان) بجانب عدد من القنوات الفضائية الأخرى، وكذلك توقفت الإذاعة السودانية وعدد من الإذاعات المحلية ذات الموجات القصيرة (FM)، ويعود سبب التوقف الي اجتياح مليشيا الدعم السريع كل المؤسسات الإعلامية واحتلال دورها وتدمير بنايتها التحتية. ومع مرور أكثر من تسعة أشهر على هذه الحرب، عاودت بعض القنوات الفضائية والإذاعات بثها، ولكن ظلت الصحافة الورقية متوقفة عن الصدور وغابت عن المشهد الإعلامي، وشكل هذا التوقف في السودان هاجسا كبيرا لأصحاب المؤسسات الصحفية السودانية (الملاك) والصحفيين، وانعكس سلبا عليهم وعلى أوضاعهم بصورة مباشرة بتوقف مصدر الدخل لهم. كما يشكل توقف الصحف الورقية عن الصدور تهديدا مباشرا لهذه المهنة في حال غياب النسخة الورقية عن المشهد الإعلامي بصورة نهائية في السودان. إذ أن توقف الصحافة عن النشر الورقي منذ اليوم الأول للحرب حتى اليوم، قاد للبحث والتعمق في سبيل معرفة مصيرها ومستقبلها في السودان، وهل ستتوقف عن الصدور وتعتمد على النسخة الإلكترونية بعد الحرب أم ستواصل صدورها رغم كل التحديات الماثلة الآن؟
الصحافة السودانية واكبت العصر الرقمي وشهدت مرحلة ذوبان الحدود الفاصلة بين الوسائل الإعلامية، حيث ظهرت ملامح ومؤشرات الاندماج الرقمي من خلال ظهور واقعا إعلاميا جديدا عند توجه الصحف إلى استخدام وتوظيف التطبيقات الإعلامية لعرض ونشر ومشاركة المحتوى بعدة وسائط.
الهبوط الناعم للصحافة
يعود تاريخ انتقال مؤسسات الصحافة السودانية لمواكبة التطورات التقنية مع بداية استخدام الحاسوب في مجال الصحافة في بداية تسعينيات القرن الماضي، وكانت بدايات استخدامه في عدد من الصحف، وبحكم عملي في صحيفة السودان الحديث في العام 1994 كان يتم استخدام الحاسوب في عمليات جمع الأخبار ومعالجتها من حيث التحرير والتدقيق اللغوي على جهاز الحاسوب، ويتم تصميم الصحف يدويا وطباعتها. وكانت المرحلة التالية لمواكبة تكنولوجيا الإنتاج الإعلامي هي مرحلة تصميم الصحف على جهاز الحاسوب بجانب جمع المادة ومعالجتها تحريريا، ويتم ارسالها يدويا للطباعة وتواصلت عمليات التطور التقني للصحيفة لتصل إلى أتمتة كل مراحلها وارسالها (on line) إلى المطبعة، ومن ثم ظهرت المواقع الإلكترونية لهذه الصحف على الإنترنت تحمل ذات المحتوى الموجود على الصحيفة، وتطور الأمر حتى ظهرت النسخ الرقمية مثل نسخة (PDF) التي يتم تصميمها للطباعة واتاحتها على الموقع الإلكتروني ويمكن للقارئ الاطلاع عليها كاملة على جهاز الحاسوب المحمول أو الهاتف، كأنه يطالع الصحيفة الورقية.
لذلك فإننا نستطيع القول إن الصحافة السودانية واكبت العصر الرقمي وشهدت مرحلة ذوبان الحدود الفاصلة بين الوسائل الإعلامية، حيث ظهرت ملامح ومؤشرات الاندماج الرقمي من خلال ظهور واقعا إعلاميا جديدا عند توجه الصحف إلى استخدام وتوظيف التطبيقات الإعلامية لعرض ونشر ومشاركة المحتوى بعدة وسائط. وظهر ذلك جليا في السودان بعد الحرب حيث اعتمدت الصحف على المواقع الإلكترونية في نشر المحتوى. وانتشرت حديثا عدد من الصحف التي لم تصدر نسخة ورقية من قبل، وإنما اكتفت بالنشر عبر مواقعها الإلكتروني لتقدم محتوى صحفيا يشمل كل الأنواع والأشكال التحريرية.
ما يلفت الانتباه في الصحافة الورقية في السودان أننا نجد ملكيتها بيد رأس المال الخاص وبعض من المؤسسات المملوكة للدولة، ولكن غالبية هذه الصحف تعود ملكيتها لرجال أعمال وليس شراكات ذكية بين مجموعات تجارية
تحديات الصحافة الورقية
واجهت الصحافة الورقية في السودان تحديات اقتصادية كبيرة من حيث ارتفاع تكاليف الطباعة بجانب إشكالية توفير حقوق العاملين، في ظل قلة التوزيع ونقص الإعلانات. وهذا يشير إلى أن اقتصاديات صناعة الصحافة في السودان كانت وما تزال تمر بمراحل معقدة صعبت من استمراريتها كنسخة ورقية وأدت إلى توقف معظمها قبل الحرب. وفيما شهدت صناعة الصحافة ارتفاعا كبيرا في تكاليف انتاجها، وأصبح واقع الصحافة الورقية في السودان قبل الحرب يسير بوتيرة بطيئة وتتجه بكلياتها نحو العد التنازلي، وما يؤكد ذلك هو تقارير المجلس القومي للصحافة والمطبوعات التي صدرت في السنوات الأخيرة خاصة تقرير (٢٠٢٢م) الذي أشار إلى تناقص أعداد طباعة الصحف في السودان في السنوات الأخيرة، ويؤكد د.عادل العاقب المسؤول السابق بالمجلس القومي للصحافة والمطبوعات أن الصحف كانت تطبع قبل الحرب كحد أقصى ١٠٠٠٠ نسخة وهناك صحف كانت تطبع ألف نسخة فقط، فيما وصل عدد طباعة الصحف في القرن الماضي في السودان إلى مئة ألف نسخة كأعلى نسبة من الطبعة الواحدة. وانعكس تدني نسبة طباعة الصحف وقلة توزيعها على بيئة العمل الداخلية للصحف ونتج عنه ضعف العائد المادي للمبيعات، ليتبع ذلك الاستغناء عن خدمات بعض العاملين. كما وأثر ذلك على الأداء المهني وعلى جودة المحتوى للصحف.
وما يلفت الانتباه في الصحافة الورقية في السودان أننا نجد ملكيتها بيد رأس المال الخاص وبعض من المؤسسات المملوكة للدولة، ولكن غالبية هذه الصحف تعود ملكيتها لرجال أعمال وليس شراكات ذكية بين مجموعات تجارية، ولذلك فان هذه الملكية الخاصة قد تجعل استمرارية الصحيفة تحت رحمة الربح والخسارة، كما أن قابليتها للاستمرارية مرتبطة بربحها، وإلا سيطالها سيف التوقف، كما يهدد حرية الصحيفة أجندة وسياسة مالكها. ويضاف إلى ذلك مواجهة الصحافة الورقية ضعف الإعلان التجاري الذي تناقصت مساحته وقلت قيمته المادية في الأعوام الأخيرة، حيث كان يمثل أحد مصادر تمويل الصحيفة وتفرد له مساحات كبيرة داخلها، ويعتبر السبب الرئيس في ذلك هو عزوف الجمهور عن شراء الصحف والاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي كبديل إعلامي وإعلاني، وقاد هذا التحول وكالات الإعلانات والمعلنين إلى الاتجاه نحو الصحافة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. ورغم معاناة الصحافة الورقية في السودان قبل الحرب إلا أنه يمكن القول إنها في تلك الفترة لم تنحني للعاصفة بل كانت تواصل رحلتها الشاقة في النشر الورقي في سبيل مواصلة الصدور والنشر ومن أجل المحافظة على جمهورها أولا والحصول على العائد المادي.
تداعيات الحرب على الصحافة
إن تداعيات الحرب وانعكاساتها السلبية على المؤسسات الإعلامية في السودان خاصة الصحافة الورقية كانت كبيرة، حيث تسببت الحرب في توقف بعض المطابع بصورة كلية ودمرت بنياتها التحتية ونهبت ما فيها، ولعل هذه واحدة من السلبيات التي رافقت تواجد المطابع والصحف السودانية في الخرطوم. كما وترتب على توقف الصحف تشريد الصحفيين والإعلاميين من كل وسائل الإعلام، وخرج معظمهم هربا من جحيم الحرب إلى خارج السودان أو إلى داخل ولايات السودان، في حين لايزال بعض منهم موجود في الخرطوم في بعض المناطق الآمنة وحتى في مناطق الاشتباكات. ويضاف إلى معاناة الصحفيين في ظل هذه الحرب هو ضعف شبكة الإنترنت وتأثر بينتها التحتية بالأحداث مما أدى إلى ضعف الخدمة أو توقفها أحيانا بسبب استهداف أبراج الاتصال.