الجبل والكهف: هل السودان قابل للقسمة؟ (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
بوقوع انفصال جنوب السودان الذي صار دولة جنوب السودان في 2011 لم يعد يحر جواباً من سئل إن كان السودان قابلاً للقسمة. وهو سؤال خيم على الفكر السوداني منذ ميلاده في خضم حروب أهلية لا تكاد تنتهي لتبدأ.
وبدا أننا ربما أنفقنا في الإجابة شفقة كثيرة، وحدساً مجازفاً، ومقارنات غير مدروسة أكثر مما أنفقنا في النفاذ إليه بفكر نقدي غير رحيم. وأكثر ما حجبنا عن هذه الفكر النقدي هو اقتصارنا على توزير الحكومة (المركز)، في جعل السودان آيلاً للقسمة دائماً وأبداً. وقل من اعتبر المعارضين لهذه الحكومات في الهامش في حسابات أيلولة السودان للتفرق على أيدي سبأ.
فصح، إذا كانت الأمة، في قول المؤرخ الفرنسي أرنست رينان، هي إرادة العيش معاً، أن نخضع فكر حركات الهامش وممارستها لمعيار امتثالها لهذه الإرادة. وسنجد أنه اعتور إرادة هذه الحركات في إرادة الأمة عارضان أبطلا كثيراً من فاعليتها. أما العارض الأول فهو قيامها من فوق سياسات الهوية العرقية أو المناطقية. فالقضايا التي دفعت بها مناطقية، دارفور مثلاً، أو عرقية، عرب وزرقة (أفارقة)، أو قبائلية في مثل نزاعات الحواكير (ملكية الأرض). وجعل هذا من المركز خصماً عرقياً قبائلياً بأكثر مما هو سياسي. وتصبح الزهادة فيه واعتزاله خياراً مفتوحاً.
وأما العارض الأخير فهو حملها السلاح لتحصل على مطلبها بفوهة البندقية في مواجهة نظم ديكتاتورية عسكرية حكمت مركز الخرطوم لأكثر من 50 عاماً في عهده المستقل منذ 1956. ولم تكن المواثيق التي مهرها الهامش مع المركز بالنتيجة عهوداً استراتيجية طويلة المدى في بناء الأمة، بل أشبه بالصفقات اشتهرت بنقضها أكثر من حملها إلى غاياتها.
بجعل الهوية الإثنية والمناطقية دون هوية الوطن الجامعة مبلغ همها وقعت حركات الهامش فيما يمكن أن نطلق عليه، جرياً وراء الفيلسوف الأميركي مارك ليلا، بالتراجع عن الجبل، الوطن، إلى الكهوف، أي الهويات الأصاغر فيه.
مفهوم الجبل والكهف ربما استفاده “ليلا” من الفيلسوف الأميركي الآخر ريتشارد روتري في نقده لنظرية العرق النقدية. وهي النظرية التي تقول إن العرقية ليست نتاج حزازة شخصية للفرد في جماعة ما ضد جماعة أخرى فحسب، بل هي ضغينة متوطنة في النظام القانوني والشوكة السياسية والثقافية. ودخلت الجماعات المغلوبة على أمرها للسياسة من باب الهوية. وعلى توفيق الناشطين بهذه السياسة في رفع ظلم كثير عن هذه الجماعات، إلا أنها، في قول روتري، تحللت من فكرة الأمة نفسها من فرط تركيزها على هوية الجماعات الأقلية فيها والتظلم من نير الجماعة الغالبية أو المتسلطة.
وعلى رغم نفع النظرية لهذه الجماعات المغلوبة، مما جرى وصفه بـ”الآخر” أي آخر الجماعات الغالبة، فإنها في قوله كرست لهذا الآخر على حساب التاريخ المشترك والرغبة في العيش معاً التي من وراء أي أمة.
وهي نفس شكوى الفيلسوف ليلا في نعيه الليبرالية الأميركية. فقال إنه لا دونالد ترمب ولا شيعته مما يسوؤه فيسهد به. فما يحز في نفسه حقاً أن النظرية العرقية النقدية وغيرها منعت الليبراليين من تنشئة رؤية طموحة لأميركا ومستقبلها تلهم سائر المواطنين. فما عجز الليبراليون عن الإتيان به، في قوله، هو صورة لما سيكون عليه عيشنا المشترك.
ولأنهم تنكبوا طريق هذه الرؤية الجامعة هرعوا إلى سياسات الهوية، وقد “غاب عنهم الحس عما يواثق بينا كمواطنين وما يربطنا حزمة كأمة”. وباءت بالفشل المساعي لأخذ الناس المختلفين عنك للتضامن معك حول جهد مشترك لغاية.
وقال ليلا، إنه قد تتعدد أسباب إخفاق الليبرالية، إلا أن فشلها في حفز الرغبة للعيش المشترك في سائر الناس في الأمة هو أم الأسباب. وعليه خسر الليبراليون رهان الأمة لأنهم “تراجعوا إلى كهوف كانوا حفروها لأنفسهم فيما كان جبلاً عظيماً”، أي في أمة كبيرة.
وكانت آراء روتري وليلا هي مأخذ النقد الليبرالي لنظرية العرق النقدية الذي غلب في نقده الفكر المحافظ في أيامنا هذه. وسطع حاكم فلوريدا رون دي سانتوس في سمائه حتى بث عيونه في مكتبات المدارس للتبليغ عن كل كتاب ينهج نهج العرقية النقدية ليصادره. وحجته أن مثل هذه الكتب، بحملها على العرقية البيضاء وتاريخها في الرق والتفرقة العنصرية، تزج بالأطفال البيض في هوان الذات بدلاً من أخذهم برفق إلى مدارج العيش لمشترك في الأمة.
ومن أوضح مظاهر “الاستكهاف” عن الأمة في أميركا ما ذاع باسم “الفرز العرقي والسياسي” في كتاب لبل بيشوب. والفكرة من ورائه أن استقطاب المحافظين والليبراليين تفاقم للحد الذي لم يعد واحدهم يعيش بجوار الآخر. فصار الواحد منهم يرتحل إلى موضع جيرته فيه من شاكلته في المزاج السياسي والثقافي. وهذا هو الفرار الكبير من الجبل للكهف.
وسنأخذ فيما تبقى من حديث اتفاق سلام جوبا الموقع في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بين غالب حركات دارفور المسلحة والحكومة السودانية كشاهد عيان على استعصامه، بتركيزه على الهوية المناطقية، بالكهف دون الجبل.
بروف مارك ليلا بحامعة كولمبيا نيو يورك.