“هنا أم درمان”.. إذاعة وحدت السودان وثقفت الأجيال منذ أيام المستعمر

دخل المذياع حياة السودان مبكرا، وكان لإذاعة أم درمان أثر كبير في حياة السودانيين، منذ شنّفت آذانهم أول مرة في 2 مايو/ أيار 1940، فالتاجر في دكانه، والفلّاح في مزرعته، والسائق وركّاب المواصلات، كل واحد من هؤلاء يجد ضالّته في برنامجٍ ثقافي، أو حلقة من مسلسل اجتماعي، أو فقرة فنية غنائية، أو فائدة روحية دينية.

في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شاشتها بعنوان “هنا أم درمان”، سُلّط الضوء على محطات مهمة في عمر هذه الإذاعة من حيث إنشاؤها وأهم رجالاتها، وبعض من أكثر برامجها متابعة وتأثيرا، وعلاقتها بالسلطات الحاكمة، ودورها في توحيد الوعي السوداني على امتداد رقعة الوطن الكبير.

إذاعة أم درمان.. أداة لخدمة الاستعمار أصبحت وسيلة وعي
أنشأ الإنجليز إذاعة أم درمان لبث أخبار الحرب العالمية الثانية، ولخدمة أهداف الاستعمار البريطاني في السودان، وكانت تُمول بأموال الدعاية البريطانية ووزارة المستعمرات، لتبث مدة ساعتين يوميا من مبنى البوسطة في أم درمان، وكانت البرامج محدودة جدا، تبدأ بالقرآن الكريم وبعض الأغاني البسيطة، ويخصص باقي الوقت للأخبار، وكانت البرامج -ومنها الأغاني- تُبثّ مباشرة من دون تقنيات معقدة.

وكان أهل أم درمان يتوافدون إلى المقاهي من مختلف الأحياء، لسماع الحفل الغنائي الذي يحييه مجموعة من المطربين السودانيين، منهم حسن عطية وأحمد المصطفى والحاج محمد أحمد، ثم يستمعون لنشرة الأخبار التي تغطي أحداث الحرب العالمية الثانية.

وكان المثقفون قبل عصر الإذاعة يتوجهون لنادي الخريجين وبعض الأندية الأخرى في أم درمان والخرطوم، لحضور أمسيات الأدب والثقافة، وبعضهم يطلع على الصحف القادمة من مصر، ولم يكن اهتمامهم بالأخبار على قدر اهتمامهم بالشعر والأدب والتاريخ.

ولم يكن هنالك ارتباط يذكر بين الإنسان السوداني وما يجري في العالم، فكانت الحياة بطيئة وأحداثها رتيبة، تنحصر في نشاطات اجتماعية وثقافية، تمارس في الأندية والتجمعات في المدن الكبيرة وعواصم الأقاليم.

وقد استفاد المثقفون السودانيون من الإذاعة في توصيل أفكارهم ورسائلهم بطرق رمزية وغير مباشرة، تحت سمع وبصر المخابرات البريطانية. وقد توقف التمويل البريطاني للإذاعة السودانية مرات عدة، بسبب بعض الرسائل التي ظن المستعمر أنها تخلق بلبلة ضده في الشارع السوداني.

أم درمان.. مهد الثورة ونبع الوعي والثقافة
بعد مدة من بثها، امتد وقت بث البرامج الإذاعية وتنوعت فقراتها، لنشر الوعي لدى الإنسان السوداني وتعريفه بوطنه. ولأن ثقافة أهل السودان سماعية، فقد جاءت الإذاعة لتساهم في توحيد الوجدان السوداني وإثراء ذاكرته السمعية.

فقد بدأت إذاعة أم درمان في البوسطة وكانت مصلحة الاتصالات السلكية واللاسلكية مسؤولة عن أجهزة الإرسال وتركيبها، ثم انتقلت الإذاعة إلى بيت يملكه مولانا حسن الطيب هاشم، ما بين 1943-1957، وهناك شهدت جميع التطورات التي حدثت على الساحة السودانية، وساهمت في تقديم عدد من الأسماء الفنية والثقافية والسياسية والإذاعية اللامعة على مستوى السودان.

ومدينة أم درمان هي المدينة التي صمدت في وجه المستعمر وحاربته، وهي موطن الثورة المهدية، وقد ساهمت في تأسيس السودان الحديث، وكانت العاصمة الأولى، وفيها مزيج من الأعراق والثقافات السودانية.

عمالقة الإذاعة.. رجال صنعوا ذاكرة السودان المسموعة
من خلف مسجل إذاعة أم درمان، كانت بدايات المذيع المشهور أيوب صدّيق، قبل أن يتعاقد معه القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، وهناك في لندن قال مرة: “هنا أم درمان” بدل أن يقول “هنا لندن”، ولكنه تدارك الموقف بحصافة ولباقة، مستشهدا بقول أمير الشعراء:

وطني لو شُغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي

وقد استخدمت إذاعة أم درمان اللغة العربية الفصيحة إلى جانب الدارجة السودانية، وكانت أول تغطية خارجية لها من دار الرياضة في 1951، وكان يعلق على مباريات كرة القدم المذيع طه حمدتو، وحتى بعد ظهور التلفزيون كان السودانيون يفضلون سماع التعليق الرياضي على المباريات من الإذاعة.

على جمله، يحمل هذا الرجل جهاز الراديو ليستمع إلى إذاعة أم درمان
وقد أحدث الإعلامي الشهير صلاح محمد صالح ثورة في خريطة البرامج الإذاعية، وكان قد تلقى تدريبا في بريطانيا في المجال الإعلامي، وعاد إلى السودان في 1954، وينسب إليه الفضل في استحداث برامج هادفة جديدة، منها ركن الطفل، وركن المزارع، وركن المرأة، وظهرت كذلك حقيبة الفن التي أغنت الذائقة الفنية واللغوية والوجدانية للمواطن السوداني في مختلف الأقاليم.

وإذاعة أم درمان هي التي ساهمت في صناعة عدد من نجوم الفن، منهم إبراهيم الكاشف وأحمد المصطفى وحسن عطية، فقد كان المطرب يمر بثلاث لجان تفحص أغنيته قبل أن تُجاز وتبث للمستمع، فهناك لجنة لإجازة الصوت، وأخرى لإجازة الشعر، وثالثة لإجازة اللحن.

كما نقلت الإذاعة أفراح السودانيين بالاستقلال وجلاء القوات المصرية والبريطانية عن السودان فاتح يناير/ كانون الثاني 1956، ونقلت جلسات مجلس الشعب السوداني، بتسجيل كلمات النواب كتابةً أو سماعا بأجهزة التسجيل، ثم يقرؤها المذيعون ليلا على أسماع الجمهور.

أُمّ إذاعات السودان.. مؤسسة خرج من رحمها التلفزيون والمسرح
في عام 1957، انتقلت الإذاعة إلى مقرها الحالي، ولكنها بانتقالها خسرت ثروة هائلة من الأسطوانات القديمة والموروثات الغنائية الثمينة، فقد التهمها حريق أضرم للتخلص من الأسطوانات التالفة، لكن المكتبة الحالية ما زالت تحوي مئات آلاف الساعات الإذاعية، تغطي الأحداث السودانية على اختلاف الحقب السياسية.

ومن رحم الإذاعة خرج المسرح القومي والتلفزيون، ففي عام 1963 بدأ البث التجريبي للتلفزيون السوداني، وكانت القوة العاملة في التلفزيون جميعها من كوادر الإذاعة، وبدأ بفقرات برامجية بسيطة وتغطية الاحتفالات القومية. أما المسرح القومي، فقد كان مبناه تابعا للإذاعة، وفكرته كذلك نابعة من الإذاعة.

وقد دأبت الإذاعة على إقامة حفل غنائي مفتوح كل أسبوع يحضره الجمهور، وعلى تسجيل البرنامج الجماهيري المشهور “فرصة سعيدة” بحضور الجمهور، ومن هناك تطورت الفكرة لإنشاء المسرح القومي السوداني عام 1959.

وبعد مطلع الستينيات، انتشرت الإذاعات في الولايات والأقاليم السودانية المختلفة، مثل نيالا ومدني وكادوغلي وجوبا، فتلك خطوة خلاقة لاستيعاب التنوع الثقافي والجغرافي والتاريخي لأقاليم السودان، لكن هذه الفكرة لم تنجح بالقدر المطلوب، بسبب أنها كانت تقليدا لإذاعة أم درمان.

ثم نشأت في الثمانينيات مجموعة من محطات الإذاعة الخاصة التي تخدم أهدافا معينة، منها إذاعة السلام التي دأبت على خدمة رسالة السودان المسالم، وتقديمها بجميع اللهجات السودانية، ومنها الإذاعة الأفريقية التي تسعى للتواصل مع الدول الأفريقية المجاورة بلغاتها، كالسواحلية والهوسا والأمهرية وغيرها.

طيف متنوع من البرامج يروي عطش المستمعين
كان برنامج “من أم درمان إلى ربوع السودان” يُعنى بتقديم الأغنية السودانية بمختلف اللهجات والألحان المحلية في الولايات المختلفة، ثم ظهرت البرامج المتخصصة في الطب والعلوم والآداب والتاريخ، وكان يقدمها باحثون ومتخصصون في هذه المجالات، منها برنامج “ذاكرة الأدب” الذي كان يقدمه حسن عباس صبحي، وبرنامج “شاعر وقصيدة” لمصطفى سند، وبرنامج “قضايا تربوية” لمحمد التيجاني، و”أقنعة القبيلة” لمحمد عبد الحي.

وهناك أيضا برامج زراعية تهم الفلاحين والمزارعين، وبرامج دينية منها “مائدة الله” و”نفحات الإيمان” و”مع الله” و”فتاوى دينية” و”مع أهل الذكر”، وهناك برنامج “أدب المدائح” الذي أحاط بالتجربة الصوفية الضخمة في السودان، وبرنامج “سحر البيان” مع البروفيسور الحبر يوسف نور الدايم وتلميذه البروفيسور عبد الله الطيب.

وكذلك “السيرة النبوية لابن هشام” يقدمها الطيب الصالح، و”دراسات القرآن الكريم” للبروفيسور عبد الله الطيب، وهو من أكثرها تأثيرا وانتشارا، لما احتواه من تبسيط للمعاني القرآنية بلغة دارجة مفهومة.

ويتذكر المخضرمون الذين عايشوا الإذاعة قديما جون ورقة مراسلَ الإذاعة في الأقاليم، وكان قبل أن يسلم يحرص على الاستماع لبرنامج “رأي من الدين”، ويحب سماع الأذان بصوت محمد أحمد حسن، وكان محمد يحرص على الدعاء له بالهداية، حتى أعلن إسلامه.

هامش الحرية.. قارب يبحر في أمواج السياسة المتلاطمة
لعبت الإذاعة دورا مركزيا في إبراز الدراما والمسرح إلى حيز الوجود، وكان للمسلسلات الإذاعية أثر كبير في نشر الوعي بين طبقات المجتمع السوداني، لا سيما في الريف، وقد أصبحت هذه المسلسلات فيما بعد أعمالا تلفزيونية ومسرحية، مثل مسلسل “دكان ودّ البصير”، وكان يبيع للمستمعين وعيا وثقافة ومعلومات وتاريخا.

وعلى عكس إذاعات الأنظمة الشمولية في دول أخرى، كانت إذاعة أم درمان تنعم بمساحة كبيرة من الاستقلالية والحرية، ولم يكن للدولة تدخل في البرامج الثقافية والاجتماعية والدينية التي تبثها الإذاعة، اللهم إلا الأخبار السياسية.

وفي فترة حكم “الإنقاذ” برئاسة عمر البشير، طال الإذاعة شيءٌ من التدخل الحكومي، لا سيما في البرامج الفنية والغنائية، فقد رأى فيها النظام مساسا بالثوابت الدينية وأخلاقيات المجتمع السوداني المحافظ.

“ما يطلبه المستمعون”.. بداية التواصل المباشر مع الجمهور

كان من أشهر برامج الإذاعة برنامج “ما يطلبه المستمعون”، وكان يتيح للجمهور طلب أغانٍ معينة، ثم إهداءها إلى غالٍ أو عزيز، وكان الطلب بواسطة كوبون يقتطعه المستمع من مجلة الإذاعة، ويكتب عليه الأغنية والمطرب المفضل ويرسله بالبريد لدار الإذاعة، ثم تطور البرنامج ليصبح بثا مباشرا ويستقبل اتصالات الجمهور عبر الهاتف على الهواء.

وحرصا من الإذاعة على التواصل المباشر مع جمهورها، فقد نشأت “رابطة الإذاعة” التي تضم عددا من المواطنين، ممن يحرصون على سماع جميع البرامج، ويقدمون النصح والإرشاد لإدارة الإذاعة، للتصويب والتطوير ما أمكن.

وحرصت إذاعة أم درمان على تأسيس زاوية في نشرة أخبار الثامنة مساء، مخصصة لنشر أسماء الوفيات في أنحاء السودان، وأسماء أقاربهم الذين يتقبلون العزاء، وذكر مكان وزمان التشييع.

“وحدة الوجدان.. وحدة السودان”
قلّ اهتمام الشباب بالإذاعة في الوقت الحاضر، وأصبح الاستماع إليها محصورا في أوقات ركوب وسائل النقل، فأكثر اهتمامهم موجّه إلى الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب ومتابعة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

وفي عصر السرعة وانتقال المعلومة عبر الإنترنت بطريقة أسرع بكثير من الإذاعة التقليدية، والوصول إلى شريحة أكبر من الجمهور، أصبحت تقنية “البودكاست” هي المهيمنة في نقل المحتوى الصوتي إلى الجمهور في مختلف أنحاء السودان.

لكن هذا لا يقلل من شأن الإذاعة، فقد استطاعت بشعارها الخالد “وحدة الوجدان.. وحدة السودان” أن توحِّد المزاج العام، ثقافيا وفنيا وتاريخيا، للمستمعين في كل أنحاء السودان وأقاليمه وولاياته، وسيظلّون بكل أطيافهم وطوائفهم مدينين لإذاعة أم درمان، بمستوى الوعي والتوحد الثقافي الذي يجمعهم.

الجزيرة نت


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.