وسط تحذيرات ..مع بداية موسم الأمطار.. الألغام والشظايا تمثل حربًا جديدة تهدد حياة المواطنين السودانيين
مع بداية فصل الخريف وموسم الأمطار وبعد جرف السيول للتربة السطحية، كُشف عن حقل كبير من الألغام زرعتها قوات “الدعم السريع” على امتداد الطريق الدائري من مدخل مصفاة الجيلي شمال العاصمة السودانية الخرطوم.
حرب من نوع آخر تطل برأسها من مخلفات المعارك التي لا تكاد تنتهي، إذ باتت الأجسام الغريبة والذخائر غير المنفجرة من مقذوفات المدفعية (الدانات) وبقايا شظايا الرصاص النحاسية وغيرها تشكل خطراً داهماً على حياة المواطنين في السودان مع تزايد أعداد ضحايا تلك المخلفات كل يوم بخاصة من الأطفال في مناطق عدة بالبلاد.
ألغام وتلوث
مع بداية فصل الخريف وموسم الأمطار وبعد جرف السيول للتربة السطحية، كشف عن حقل كبير من الألغام زرعتها قوات “الدعم السريع”، على امتداد الطريق الدائري من مدخل مصفاة الجيلي شمال العاصمة السودانية الخرطوم نحو مدينة شندي بولاية نهر النيل.
وحذرت مصادر محلية من أن أعداداً أخرى من الألغام قد تكون ما زالت مدفونة تحت الأرض على الطريق نفسه، داعية المواطنين لاتخاذ الحذر الشديد من خطرها وتفادي المرور بالعربات أو سيراً على الأقدام في تلك المنطقة حفاظاً على سلامتهم وسلامة الآخرين.
وقبل أكثر من شهر انفجر لغم في المنطقة نفسها في ناحية بلدة حجر العسل بولاية نهر النيل بشاحنة لوري أدى إلى مقتل عدد من المواطنين.
وفي شمال أم درمان شكا مواطنون في امتداد حارات الثورة من وجود نفايات حربية تم تفريغها من قبل مجهولين غرب الحارة (80) الإسكان بينها ذخائر متنوعة غير منفجرة تسببت في بتر أصابع يد طفل حاول العبث ببعضها.
وأوضح مواطنون أنهم عثروا كذلك ضمن تلك النفايات على ملابس ملطخة بالدماء أثارت مخاوف الموجودين من السكان من تسببها في مشكلات صحية، مطالبين السلطات بالتدخل للتعامل مع تلك النفايات.
أخطار كبيرة
وفي السياق، نبه مصدر في المجلس القومي للبيئة إلى أن الأخطار الكبيرة المترتبة على مخلفات الحرب من نفايات ملوثة وذخائر غير منفجرة، مثل القنابل والقذائف الكبيرة، أقلها الموت أو الإصابات البالغة والإعاقات المستدامة، والأمر المأسوي هو أن معظم ضحاياها من المدنيين وبخاصة الأطفال، ناهيك عن التأثير المعنوي في قرار عودة المواطنين.
ودعا المصدر إلى ضرورة التعامل الخاص مع مخلفات الحرب والنفايات بصورة عامة في هذه المرحلة، وفق معالجات نوعية خاصة، لما تمثله من خطر ذي شقين أمني وبيئي، ربما طويل الأمد، يهدد بتلوث البيئة بمكوناتها الكيماوية التي قد تتسرب إلى مصادر المياه والأنهار والأحياء المائية، وبما تشكله المتفجرات المنسية أو المدفونة من خطر على أرواح الناس.
وتابع “بما أن السودان من الدول التي لا تمتلك الآليات اللازمة أو المرادم المخصصة لمعالجة مثل تلك النفايات والمخلفات، لكن كونه عضواً مصادقاً على اتفاقيات ومعاهدات بازل وروتردام واستوكهولم الخاصة بالنفايات الخطرة، يمكنه الاستفادة من تلك المعاهدات، فضلاً عن أن هناك شركات عالمية متخصصة في هذا المجال يمكن تسليمها مثل تلك النفايات الخطرة”.
مفاجآت العودة
ومنذ أشهر عدة، بدأت بعض الأسر بالعودة إلى مناطق أم درمان القديمة بعد أن لاذ بعضها إلى أحياء الثورة بمحلية كرري لأشهر عدة وأم درمان شمال الخرطوم، إثر ادعاءات بتنظيفها من قبل قوات “الدعم السريع” وعودة الوضع الآمن.
وجد المواطنون منازلهم في حالة يرثى لها بعد أن نهبت كل محتوياتها، لكن الأخطر من ذلك أنهم وجدوا مخلفات الحرب تنتشر بكثافة في المنطقة.
يقول المواطن (أ. م. إ) من بين من وصلوا إلى بيوتهم إنه فوجئ بالمنزل الذي أشبه بمخزن ذخيرة، وأضاف “وجدت واجهة المنزل الداخلية مهدمة بغرض إخفاء عربة قتالية داخله، أما الصالة نفسها فمليئة بالمتفجرات ومخلفات الحرب، وقطع الذخيرة في كل مكان وبكميات كبيرة، بعضها مستخدم وآخر لم ينفجر”.
غالباً ما تجذب هذه المخلفات بشكل قاتل الأطفال إما بسبب حب الاستطلاع أو لحسبانها أغراضاً تصلح للعب، ولكن في الواقع لمسة واحدة قد تحدث انفجاراً هائلاً، وقد تسببت بالفعل في مقتل أربعة أطفال”.
ضحايا الفاشر
وفي الفاشر غرب السودان شمال دارفور، أسفر انفجار مقذوف مدفعي كبير (دانة) داخل إحدى المدارس عن سقوط ثلاث ضحايا من أسرة واحدة وعدد كبير من الجرحى والمصابين.
وللتخفيف من مثل تلك الحوادث، بادر مركز مكافحة الألغام في شمال دارفور بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسف) بتنظيم ورشة للتوعية بأخطار مخلفات الحرب حتى يتمكن المتدربون من المساهمة في الحد من أخطار وآثار مخلفات الحرب في مجتمعاتهم بالمناطق المتأثرة.
ومنذ منتصف مايو (أيار) الماضي تسعى قوات “الدعم السريع” للاستيلاء على مدينة الفاشر آخر معقل للجيش في إقليم دارفور، وتفرض عليها حصاراً خانقاً منذ ذلك الحين من دون تمكنها من السيطرة عليها.
وأدت الاشتباكات العنيفة بين الجيش والقوة المشتركة المتحالفة معه، وقوات “الدعم السريع”، والمستمرة حتى الآن، إلى فرار الآلاف وسقوط مئات الضحايا من المدنيين داخل المدينة.
توعية وتدريب
وأوضح إبراهيم عمر حامد، مدير التوعية بمركز الألغام الولائي، أن الورشة تهدف لتوعية المجتمع من أخطار مخلفات الحرب والألغام والذخائر والأجسام الأخرى غير المنفجرة، مع تدريب المشاركين على كيفية التعرف إلى تلك المخلفات لتوعية مجتمعاتهم وتفادي أخطارها وتلافي أضرارها.
وفي منتصف يونيو (حزيران) الماضي، أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً يطالب قوات “الدعم السريع” بإنهاء حصارها على المدينة، لتجنيب مئات آلاف المدنيين الخطر.
انتشار كبير
وفي ولاية القضارف، المكتظة بما يقارب المليون نازح معظمهم من ولايات سنار والخرطوم والجزيرة مع أعداد مقدرة من الأطفال، أنشأت منظمة “يونيسف” مع شركاء محليين مناطق آمنة للأطفال، ونظمت محاضرات حول أخطار الذخائر المتفجرة وغير المتفجرة، وواكبت هناك حملة توعية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي ودعم الصحة العقلية.
في السياق، أعلن العميد خالد حمدان، مدير مركز السودان للألغام، أن مخلفات الحرب تنتشر في كل ولاية الخرطوم تقريباً، مشيراً إلى أن تقييم مدى التلوث يتم عادة بواسطة متخصصين لتحديد حجمه ونوعه ومدى انتشاره.
وأضاف حمدان “معظم التلوث في الوقت الراهن هو نتيجة الذخائر ولا يتوقع وجود ألغام كثيرة في تلك المناطق، لكن المعلومات ستتأكد بعد إتمام عمليات المسح، إذ لا توجد خرائط واضحة لعدم خضوع معظم المناطق للتقييم بعد”.
وتوقع مدير مركز الألغام انتشار فرق من المنظمات المتخصصة في المكافحة فور توافر التمويل، مشيراً إلى أن العمل الذي يتم الآن في مناطق أم درمان يجري من دون معلومات سابقة عن حجم وأماكن تلك المخلفات، لذلك فإن فرق المركز ستقوم بعمليات مسح وإزالة في الوقت نفسه.
سد الفجوة
وأشار حمدان إلى أنه نظراً لأهمية سرعة التصرف قام المركز بنشر فرق بشكل مباشر في أحياء أم درمان القديمة والمنطقة الواقعة جنوبها حتى كلية تربية جامعة الخرطوم، بغرض التقييم والتعامل المباشر مع المخلفات.
وتابع “لذلك فإن ما يقوم به المركز يأتي في إطار سد الفجوة إلى حين وصول وانتشار المنظمات المتخصصة، لأن دوره الرئيس هو التخطيط واختيار المنظمات بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لخدمة مكافحة الألغام بالسودان، واعتماد الفرق العاملة وفق المواصفات المطلوبة، فضلاً عن دوره الرقابي للعمل فهو يقوم بإعلان المناطق خالية من مخلفات الحرب والألغام وتسليمها للسلطات المدنية بعد نظافتها”.
إلى ذلك، وصف معتز عبد القيوم، المسؤول في مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الألغام، في السودان، ما يتم من محاولات تنظيف لمخلفات الحرب في بعض أحياء أم رمان القديمة بأنه عملية أولية، تسلط الضوء على أخطار تلك المخلفات وتهدف لحض الأمم المتحدة على تقديم يد العون وجذب الدعم الدولي.
ألغام عشوائية
وأشار عبد القيوم في حديث لـ”اندبندنت عربية” إلى أن عمليات إزالة المخلفات الحربية والأجسام غير المتفجرة أو الألغام مكلفة وطويلة، مبيناً أن إجراءات التدقيق والبحث تستغرق فترة زمنية طويلة قد تطرأ خلالها أحداث مؤسفة في حالة كثافة عودة السكان إلى أحياء الخرطوم المختلفة.
وحذر المسؤول في المكتب الأممي من أنه إذا لم تكن هناك عمليات تحقق بصورة علمية وبحسب ما هو متعارف عليه، فالخطر أكبر باعتبار أن الألغام موجودة في الطرقات الحيوية التي يعتمدها الموطن في حركته اليومية.
وما يزيد الوضع تعقيداً وفق عبد القيوم، أن عمليات زرع الألغام في ولاية الخرطوم على وجه التحديد تمت بشكل عشوائي من دون أي خرائط أو ترك أي دليل على مناطق وجودها، بخلاف ما هو متعارف عليه في الحروب، وسوف تكثر الاتهامات في حال وقوع أي كارثة الكل سيتبرأ من المسؤولية، والضحية هو المواطن الذي لا يريد سوى العودة إلى منزله.
تدشين واستعدادات
ودشن والي الخرطوم المكلف، أحمد عثمان حمزة، المرحلة الأولى لإعادة الحياة إلى بعض مناطق أم درمان القديمة، وتفقد عمل فرق المركز القومي لمكافحة الألغام في جمع ومعالجة مخلفات الحرب والدانات غير المتفجرة والأجسام الغريبة في المنطقة.
وكان وزير الصحة الاتحادي المكلف، هيثم محمد إبراهيم، قد دعا إلى ضرورة التنسيق مع المنظمات المتخصصة لتفادي التلوث والإشكالات والأخطار البيئية والصحية الكبيرة التي تفرزها مخلفات الحرب.
وطالب الوزير، الجهات المعنية في الدفاع المدني وصحة البيئة والوكالة القومية للرعاية الطارئة، بضرورة وضع خطط مشتركة للحد من الأخطار والآثار الناتجة من التلوث والمحافظة على سلامة المواطنين وتوعيتهم، فضلاً عن سرعة الاستجابة والتدخل فور انتهاء الحرب.
وأسفرت حرب السودان المندلعة بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) من العام الماضي عن سقوط أكثر من 14 ألف قتيل وتشريد أكثر من 12 مليون شخص، بنزوح نحو 10.2 مليون منهم داخل البلاد، ولجوء أكثر من 1.8 مليون إلى الدول المجاورة، مخلفة أكبر أزمة نزوح في العالم، وفق تقارير أممية ومحلية، تاركة أكثر من نصف سكان البلاد على شفا مجاعة وشيكة.
صحيفة اندبندنت البريطانية