بين النزاع والسيول.. كيف يكشف الخريف عن تأثيرات التغير المناخي على السودان؟
في ظل النزاع المستمر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يجد السودانيون أنفسهم الآن محاصرين بأمطار غزيرة وسيول جارفة تجتاح ولاياتهم. لكن الكارثة لا تقتصر على ذلك؛ فصل الخريف كشف عن تأثيرات مناخية ملحوظة أثرت بشكل خطير على الصحة العامة، مما يطرح أسئلة ملحة حول تأثير التغير المناخي على الطقس في هذا الموسم. كيف يؤثر هذا التغير على الزراعة والمحاصيل، وما هي الاستراتيجيات المتبعة للتكيف مع هذه التحديات وتخفيف آثارها؟
تأثير واستراتيجيات
في هذا الصدد، يقول مدير إدارة الرصد والتوقع بالهيئة العامة للأرصاد الجوية بالسودان، محمد شريف محمد زين، إن تأثير التغير المناخي على الطقس يظهر في الجفاف الشديد، وندرة المياه، وحرائق الغابات، وارتفاع مستويات سطح البحر، والفيضانات، والعواصف الكارثية، وانبعاثات الغازات الدفيئة، وتدهور التنوع البيولوجي.
مدير إدارة الرصد والتوقع بالهيئة العامة للأرصاد الجوية لـ”الترا سودان”: الاستراتيجيات الممكنة للتكيف مع فصل الخريف وتخفيف آثاره على المستوى الوطني تشمل مراعاة التغيرات المناخية في جميع سياسات الدولة
وأوضح شريف في حديثه مع “الترا سودان” أن تأثير التغير المناخي على الزراعة يتجلى في انخفاض غلة المحاصيل نتيجة للجفاف والفيضانات، حيث يتسبب الجفاف في القضاء على المحاصيل، بينما تؤدي الفيضانات إلى تلفها.
وأضاف أن الاستراتيجيات الممكنة للتكيف مع فصل الخريف وتخفيف آثاره على المستوى الوطني تشمل مراعاة التغيرات المناخية في جميع سياسات الدولة، ووضع خطة لإعادة توطين المواطنين القاطنين في مجاري السيول والمناطق المنخفضة. كما يجب إعادة النظر في نمط البناء بالنسبة للمنازل السكنية، خصوصًا في ولايتي نهر النيل والشمالية، وإعادة تقييم البنية التحتية مثل المصارف، والكباري، وخطوط الطرق السفرية. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي توعية الجمهور عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والمدارس والمساجد ومؤسسات الدولة.
تحديات وفرص
أما الصحفي المتخصص في الزراعة والمناخ بصحيفة “التيار”، علي ميرغني، فيقول إن هناك اختلافًا بين الخبراء حول موسم الأمطار الحالي. اعتبر بعضهم أن ما يحدث هو تغير مناخي فعلي، وأن شمال السودان وجنوب مصر قد يشهدان مواسم أمطار وقد يتحولان إلى شبه صحراء. بينما يرى آخرون أن هذه مجرد تقلبات مناخية تحتاج إلى فترات أطول للتأكد من كونها تغييرًا فعليًا في المناخ. وأضاف أن هذا سيؤثر بشكل كبير على زراعة النخيل كمحصول نقدي في شمال نهر النيل وولاية الشمالية.
وأشار ميرغني في حديثه مع “الترا سودان” إلى أن موسم الأمطار تزامن مع حصاد التمور، ويتوقع أن يكون له تأثير سلبي على التمور، مما يدفع مزارعي الفاكهة للتحول تدريجيًا إلى زراعة الموالح أو المانجو وربما الموز، خاصة إذا أخذ في الحسبان ظاهرة حريق النخيل التي تقضي سنويًا على عشرات الآلاف من الأشجار. وتوقع زيادة مساحات المراعي، وربما تأتي هجرات من شمال كردفان طلبًا للرعي والمياه، مما يؤدي إلى احتكاكات بين هؤلاء المهاجرين وسكان المنطقة. وطالب بالاحتياط منذ الآن لذلك.
علي ميرغني: زيادة الرطوبة يمكن أن تتسبب في زيادة الأمراض المتعلقة بالمياه مثل الملاريا والنزلات المعوية والكنكشة “الشيكونغونيا” وأمراض الحيوان
وأوضح ميرغني أن زيادة الرطوبة يمكن أن تتسبب في زيادة الأمراض المتعلقة بالمياه مثل الملاريا والنزلات المعوية والكنكشة “الشيكونغونيا” وأمراض الحيوان. من ناحية أخرى، سيتأثر شكل البنيان والمباني، ويتوقع اختفاء تدريجيًا لبيوت الطين بعد أن أصبحت المنطقة ذات مناخ ممطر. وقال إن هذا يبرز تحديًا آخر وهو ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة لتصل إلى أكثر من خمسين درجة، وفي حال التحول من بيوت الطين، سيصبح من الضروري استخدام مكيفات الهواء، مما يعني زيادة في الأحمال الكهربائية ويستلزم زيادة التوليد الكهربائي لمواجهة ذلك.
وقال ميرغني إن التغيير المناخي ليس كله سلبيًا. من الأفضل محاولة تعزيز الفرص الناتجة عنه وتخفيف التحديات أيضًا. وهذا يتطلب تشكيل فريق متكامل من الخبراء في جميع المجالات ذات العلاقة: الزراعة، الصحة العامة، الثروة الحيوانية، القطاع الخاص، الري، والمجتمعات المحلية. وأضاف: “يجب الإسراع في ذلك”.
أزمة الخريف
وذهب عضو رابطة الأطباء الاشتراكيين “راش”، الدكتور النذير عثمان، إلى أن فصل الخريف يأتي على حين غرة في كل موسم، ولكن هذه المرة يأتي الخريف في ظروف أمنية وسياسية واقتصادية بالغة التعقيد يمر بها الشعب، في ظل استمرار الحرب، حيث تشهد بعض الولايات، وخاصة ولايات الإقليم الشمالي وإقليم دارفور، خسائر وكوارث بسبب هطول أمطار فوق المعدل.
وأشار عثمان في حديثه مع “الترا سودان” إلى أن الصمت المطبق هو سيد الموقف سواء من السلطات الولائية أو الاتحادية، وكل مستويات الحكم في حكومة الأمر الواقع. بجانب ظهور حالات الكوليرا في كسلا وبعض الأمراض المرتبطة بالخريف مثل الملاريا والحميات، والتهابات ملتحمة العين في بعض الولايات مثل الشمالية ونهر النيل والنيل الأبيض والجزيرة.
طالب عضو رابطة الأطباء الاشتراكيين “راش” السلطات في “حكومة الأمر الواقع” بالقيام بمهامها في توفير المأوى لمن فقدوا بيوتهم، وتوفير مياه الشرب الصالحة، وتوفير الخدمات الصحية
وتوقع عثمان تدهور الوضع أكثر بسبب انهيار المراحيض وما تسببه من اختلاط مياه الصرف الصحي مع مياه الشرب، بالإضافة إلى لدغات العقارب والثعابين وتوالد الذباب والبعوض، مما قد يؤدي إلى كوارث صحية شبيهة بما عاناه الشعب في المواسم السابقة رغم خصوصية الظروف الحالية.
وطالب عضو رابطة الأطباء الاشتراكيين “راش” السلطات في “حكومة الأمر الواقع” بالقيام بمهامها في توفير المأوى لمن فقدوا بيوتهم، وتوفير مياه الشرب الصالحة، وتوفير الخدمات الصحية من توعية وإرشادات وناموسيات وتطعيم وعلاجات وغذاء والمعينات الضرورية في مثل هذه الظروف، بحسب الموجهات العلمية.
كما طالب عثمان بتقصي آثار الخريف وتوضيح مدى الاستعداد لمواجهته بشفافية عالية للتعامل مع آثاره بالكامل. ودعا المجتمع الدولي والمنظمات الطوعية إلى مد يد العون للشعب السوداني الذي يعاني ويلات الحرب والكوارث الطبيعية وإعلان حالة المجاعة في السودان.
الحالات الشاذة
وصف الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة في ولاية الخرطوم، الدكتور بشرى حامد أحمد، التغيرات المناخية بأنها بداية للحالات الشاذة للمناخ في السودان. ووضح ذلك من خلال الأمطار الغزيرة في مناطق لم تعرف الأمطار منذ ما لا يقل عن ألف سنة. وأضاف أن الدليل على ذلك هو أن الفاصل المداري يقترب من أسوان وشلاتين وحلايب الواقعة على الحدود بين مصر والسودان، مما أدى إلى أمطار غزيرة في هذه المناطق.
وقال حامد في حديثه مع “الترا سودان” إن نوع المباني في المناطق الجافة أثر بشكل كبير على ممتلكات الناس وأرواحهم وحياتهم، ولديه تأثير في المستقبل. مضيفًا أن ذلك يتطلب من الناس تغيير استراتيجياتهم وطرق معيشتهم التقليدية، سواء في الزراعة أو في مجال الرعي وتربية الحيوان.
وتوقع حامد حدوث سيول وأمطار كثيرة خلال الأيام المقبلة. وقال إن من المعروف أن كل منطقة تهطل فيها أمطار تحتاج لنوع معين من المحاصيل، وهذا يؤدي إلى ضرورة تفكير الناس جديًا في تغيير التركيبة المحصولية لتتوافق مع كمية الأمطار والمناطق الجديدة للأمطار، وكذلك مع المناخ والتغيرات المناخية. وأوضح أن هناك جوانب إيجابية، منها إمكانية تحويل السيول والأمطار من مهدد إلى نعمة من خلال حصاد المياه.
الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة في ولاية الخرطوم: الأمطار تشكل فرصة كبيرة، حيث تعاني هذه المناطق في الأصل من جفاف ومشكلات، ولكن باتباع سبل حصاد المياه، يمكن تحويل هذه المناطق المهجورة إلى مناطق إنتاجية كبيرة تفيد الناس والسودان
ويرى أن الأمطار تشكل فرصة كبيرة، حيث تعاني هذه المناطق في الأصل من جفاف ومشكلات، ولكن باتباع سبل حصاد المياه، يمكن تحويل هذه المناطق المهجورة إلى مناطق إنتاجية كبيرة تفيد الناس والسودان، ويُمكن الاستفادة منها في زراعة الغابات والمراعي والأنشطة المختلفة. وأضاف أن ذلك سيؤدي إلى تغيير النهج الاجتماعي والاقتصادي والبيئي المتبع في هذه المناطق. وشدد على أهمية أن يكون لدى الدولة خطة واضحة للحد من مخاطر الكوارث في هذه المناطق.
وأشار الدكتور بشرى حامد إلى المشاكل الصحية المترتبة على تراكم المياه في المدن والقرى، والتي تنجم عن سوء تصريف المياه وشبكة التصريف السيئة، مما يؤدي إلى انتشار العديد من الأمراض الناتجة من توالد الذباب، مثل الإسهالات المائية والمعوية، والأمراض الخطيرة مثل الكوليرا والملاريا وحمى الضنك، بالإضافة إلى الأمراض المتعلقة بالحيوانات والأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان. وأكد أن هذا يستدعي وجود استراتيجية شاملة.
وأشار أيضًا إلى أن أحد المشاكل الكبيرة التي يواجهونها هي مسألة الاختلال الأمني وأثره في أداء المحليات والولايات في الاستعداد للخريف، فضلاً عن تدهور القطاع الصحي وعدم فاعليته في هذا الوقت، مما يفاقم المشاكل كثيرًا.
كوارث متراكبة
يأتي فصل الخريف هذا العام بوضعه المعتاد في السنوات الأخيرة، ولكن غير المعتاد هو الحرب الشاملة التي تسببت في أكبر أزمة نزوح في العالم اليوم ما يعني “عاصفة مثالية” في السودان من الكوارث المتراكبة التي لن يقتصر تأثيرها على فصل الخريف فقط، فقد فقد الناس ممتلكاتهم ومنازلهم مع الوضع الاقتصادي المأساوي الذي تمر به البلاد.
على الرغم من تباين الآراء حول السبب خلف معدلات المياه غير المعتادة في مناطق لم تشهد لها مثيلًا منذ عقود وربما قرون، فإنه من الواضح أن المناخ في السودان يمر بتقلبات مطردة
وعلى الرغم من تباين الآراء حول السبب خلف معدلات المياه غير المعتادة في مناطق لم تشهد لها مثيلًا منذ عقود وربما قرون، فإنه من الواضح أن المناخ في السودان يمر بتقلبات مطردة تهدد ما تبقى من شعور بالأمن والاستقرار في أنفس المواطنين. يحدث ذلك بالتزامن مع الاضطراب السياسي المستمر منذ أعوام أيضًا كأن ثمة علاقة سببية بين الخريف والوضع السياسي في السودان.
الترا سودان