خيانة لأجل “حرف الدال” : شهادات وهمية، وأُمية مقنعة .. “الدكتوراة” تُباع في الطُرقات

من كان يظن أن شهادة الدكتوراه، وهي أعلى شهادة في التخصص، سيأتي اليوم الذي تُعرض فيه في المزاد العلني، وتكون عرضة للنهب والاستباحة؟ فكثيرون منا فوجئوا عندما وجدوا زملاء لهم في أماكن عملهم، وقد نالوا الشهادة العالية ” الدكتوراه” دون أن يسافروا، ولم يبحثوا ولم يحققوا، ولا عجب أن يحصل بعضهم على هذه الشهادة، وهو لم ينل سابقتها الماجستير!!!

لقد أصبح الناس مهووسين أن يسبق حرف ” الدال” اسمهم. ولا ضير أن يكون ذلك بالمظهر لا بالجوهر، فقد وصل الشغف حداً أن نشأت أسواق تبيع الشهادات الجامعية العليا والالقاب الاكاديمية، ولا غرابة أن تفعل ذلك جامعات تجارية مغمورة غير معترف بها اساساً. لكن الأمر وصل إلى نشوء جمعيات خيرية ومؤسسات تجارية تصطاد هذه الفئة من اللاهثين لتمنحهم ـــ مقابل مبالغ رمزية ـــ شهادات تقديرية تسمى” دكتوراه” .

في هذا التقرير سنتطرق إلى الحديث عن شهادات الدكتوراه المزيفة أو المزورة أو الوهمية أو الغير شرعية، فهي كلها مصطلحات تصب في معنى واحد هو ” شهادات الوهم”، بينما هدفها الأساس هو السعي وراء الوجاهة الاجتماعية المتخيلة والمكاسب والمناصب غير المحدودة. في تقريرنا هذا، سنعرج اولاً إلى بعض المعطيات التي كتبها كتاب عرب حول هذه القضية، ومن ثم سندلف بالقول للحديث عن واقع هذه المسألة وأسبابها وأبعادها في الحالة الفلسطينية.

وفي هذا الإطار، سنجيب على جملة من الأسئلة، من شأنها تقريب الصورة، وتوضيح المضمون لمثل هذه القضية التي تساهم في الاساءة إلى العلم، وتدني مكانته لدى الخاصة قبل العامة. وأبرز هذه الأسئلة: ما الأسباب التي تدفع هؤلاء الأشخاص للإقدام على ذلك؟، وهل هذه القضية؛ مجرد حالات أم ظاهرة متفشية؟، وما دور المؤسسات الرسمية، وتحديداً وزارة التربية والتعليم العالي في مواجهة ذلك؟، وما أبعاد وآثار ذلك على التعليم والبحث العلمي والعلم عموماً؟ وأخيراً، ما هي الآليات التي من شانها الحد من مخاطر هذه القضية؟.

جذور ونظرة!

يقول الباحث محمد محمود البشتاوي:” يعود جذر الموضوع إلى أزمة تتعلق بنظرة المجتمع إلى الشهادة العلمية باعتبارها وسيلة لتحقيق دخل أعلى، أو وظيفة مرموقة، أو مكانة اجتماعية متميزة، دون النظر إلى الهدف منها، إذ أخذ المجتمع الشكل وترك المضمون”. ويضيف” اذا نظرنا، في سياق المقارنة، بين الحاضر، والماضي؛ فإن العملية التربوية والتعليمية تغيرت، ولهذا دورٌ كبير ، فالتعليم، أكان مدرسيا، أم جامعيا؛ أصبح يأخذ الطابع التجاري، الأمر الذي جعل البعض يشتري العلم دون أن يتعلم.

ويضيف” لم يعد سراً، أن هنالك شهادات دكتوراه مزورة وشهادات أخرى تُشترى، والأهم أن هنالك من يحمل دكتوراه من جامعات ضعيفة علمياً، وبطبيعة الحال، لن يسأل المجتمع عن مصدر هذه الشهادة، او طبيعة الجامعة التي اصدرتها، وإن سأل، وعرف أنها من جامعة مجهولة، لا يعرف من علمها شيئاً؛ فإن الزمن كفيل بأن يتناسى الناس هذا التفصيل، الذي سينتهي أيضاً في ظل وجود بعض المظاهر السلبية كالمجاملات”.

أما الكاتب محمد علي المحمود فيشير إلى أن تعامل العرب مع شهادة الدكتوراه ـــ وغيرها من الشهادات العلمية ـــ تختلف كثيراً عن تعامل الغرب، لأسباب كثيرة، لعل أهمها: أن العرب حديثو عهد بالشهادات، قياساً بالحال عند الغرب. فإذا كانت الشهادات عند الغرب تمتد لقرون، فإنها عند العرب في حدود القرن الواحد تقريباً، إذ أن أول شهادة دكتوراه من أول جامعة عربية “جامعة القاهرة” كانت شهادة دكتوراه طه حسين عن أبي العلاء المعري، التي حصل عليها عام 1914، قبل سفره إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه الثانية.

ويوضح ” أما بقية الشهادات “غير الدكتوراه” فلا تتجاوز هذا التاريخ بأكثر من نصف قرن. طبعاً، هذا في مصر، المتقدمة تاريخياً في مأسسة التعليم، أما في غيرها من بلاد العرب، فالتاريخ أقرب من هذا بكثير، ما يعني أن الوعي بالشهادات من حيث طبيعتها وتنوعها ووظائفها محدود، والابتهاج الطفولي/ البدائي بها لا يزال قائماً”

ومن الأسباب أيضاً، ( وفق المحمود) أن التأسيس الاكاديمي لعالم الشهادات تزامن مع مرحلة بناء الدولة الحديثة، بمؤسساتها القائمة على وظائف مشروطة بالشهادات. ومن هنا، ارتبطت الشهادات بعالم غير عالم المعرفة الذي يفترض أنها صادرة عنه، أي ارتبطت بعالم المصالح المباشرة التي تتجاوز نطاق الفضاءات المعرفية (المدارس، الجامعات، مراكز البحوث)، إلى فضاءات العمل والمال والسلطة والنفوذ. وبهذا، أصبحت الشهادة ليست شهادة على المعرفة، بقدر ما هي جواز مرور إلى الوجاهة والترقي في سلم المنافسات الاجتماعية.

انحراف الأهمية!

ويتابع: ونتيجة لهذا السياق الذي انحرف بالشهادات عن مهامها الوظيفية الأولى، أصبحت الشهادات سُلم الوصول إلى الوظائف المرموقة، ومنها إلى المال والنفوذ والوجاهة. ولأنها كذلك، ولأنها ـــ كشهادات معرفية/ مهاراتية متخصصة ـــ تحتاج لجهد متواصل ليس في وسع الأغلبية من الطامعين الطامحين بذله؛ عمد كثير من هؤلاء إلى الأساليب اللامشروعة للحصول عليها، من تزوير للشهادات، إما بالتزوير التقليدي المباشر، وإما بالحصول عليها من جامعات وهمية، واما باستئجار من يساعد في أداء أهم مهامها.

وفي السياق ذاته، يقول الباحث محمد السيف: لم تعد درجة الدكتوراه عنواناً على النبوغ العلم والاجتهاد في التحصيل والدراسة، بل تحولت في أحيانٍ كثيرة إلى وسيلة “للنصب”، وفي أحسن الفروض وجاهة اجتماعية، حيث يسعد صاحبها بأن يسبق اسمه” د” ، ما يمنحه حصانة فكرية متوهمة، ويسبغ على كلماته وتخريجاته مصداقية كاذبة. ويضيف” للأسف تدهور حال شهادات الدكتوراه في عالمنا العربي، وتدهور سمعتها إلى الحد الذي أصبحت الشكوك فيه تُحيط بكل حاصل على رسالة دكتوراه، وبخاصة من غير أعضاء هيئات التدريس بالجامعات”.

ويبين السيف أنه قد يُدهش البعض أن كل هذه الصور من التزييف والخداع لهذه الشهادة العلمية الرفيعة موجودة في معظم دول العالم في الغرب والشرق على حد سواء، ولعل من أشهر هذه الحوادث في الغرب ما حدث في المانيا حيث اكتشفوا أن الدكتوراه التي حصلت عليها “الدكتورة” آنيتا شافان، وكانت وزيرة للتعليم العالي آنذاك مسروقة؛ فتم سحبها منها وعزلها من المنصب الوزاري. ويشير إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي كشفت لنا مدى استفحال هذه الظاهرة في العالم العربي، وأظهرت تعطشاً مرضياً لإظهار لقب ” دكتور” أو حرف” د” أمام الاسم بأية طريقة ولو كان ذلك عن طريق شهادات تقديرية أو مزورة لا تقوم على أبحاث أو دراسات في جامعات معترف بها.

الشهادات الايديولوجية!

ويرى أنه في عالمنا العربي؛ فهناك حكايات مثيرة تروى عن شهادات يستطيع الطالب أن يشتريها من دول عربية معينة، وعن شباب عرب يسافرون إلى دول الغرب، حيث يتعاقدون مع متخصص يكتب لهم أطروحة الدكتوراه ويدربهم على طريقة الدفاع عنها أثناء المناقشة، كما أن الشهادات الايديولوجية التي اعتادت أن تهديها بسخاءٍ مفرط، جامعات الدول الشيوعية السابقة كانت تمنح في مقابل أجر عيني. وكانت تُباع بأسعارٍ قد تتراوح بين 10 و15 ألف دولار يقبضها كاتب الأطروحة أو مترجمها.

يرى د. مصطفى النشار أن حامل الشهادة المشتراة أو المزيفة يخدع بها الناس والجامعات، فقد يعمل بها مدرساً في أي جامعة وهو غير مؤهل تأهيلاً حقيقاً، وقد يكتفي منها بالوجاهة الاجتماعية وحمل الدال التي تسبق اسمه، فتفتح له أبواباً كثيرة في الحياة العامة والاجتماعية.

ويؤكد أن المؤسسات الاكاديمية الأوروبية قد تنبهت إلى كل ذلك، وبخاصة ما يتعلق منها بالسرقات العلمية، حيث خصصت مواقع الكترونية مجهزة بفهارس وملخصات الرسائل العلمية السابقة، بل زودتها بنصوص هذه الرسائل حتى يمكن الكشف في أي لحظة عن أي سرقة علمية أو اقتباسات مطولة وغير قانونية، وذلك حرصاً من هذه المؤسسات على منع السرقات العلمية والحفاظ على حقوق الملكية الفكرية.

ويضيف: وبالطبع فنحن نتمنى أن تحذو المؤسسات الأكاديمية العربية حذو ذلك بحيث تتبنى جهة عربية ما ـــ ولتكن الجامعة العربية مثلاً ـــ تكوين قاعدة بيانات عربية مشتركة يوضع فيها كل ما يناقش من رسائل علمية، وكذلك كل ما يُنشر من أبحاث علمية في المجلات العلمية المحكمة التي تصدرها الكليات الجامعية والمؤسسات العلمية المرموقة، فيكون من السهل، باستخدام هذه القاعدة من البيانات، كشف أي سرقة علمية حدثت، ومنع أي سرقات علمية مستقبلية.

مشاعية الألقاب!

من جانبها تقول د. لمياء باعشن: حين ضيقت الجامعات سياجاتها حول الالتحاق بها، انطلق أصحاب الشهادات غير المقبولة الى القطاع الخاص الذي لم يدقق كثيراً في موثوقية الشهادات، كما لم يهتم بوجود الدال قبل الاسم من عدمه. لكن عامة الناس في المجتمع صدقوا الجميع، وعاملوا الكل وكأنهم سواسية، وحين كثرت الشهادات وصارت في متناول الكل، أصبح اللقب حقاً مُشاعاً يطلق بلا ضوابط أو شروط.

وتوضح: قد ظل المجتمع متواطئاً تماماً مع صاحب هؤلاء الشهادات المزيفة، بل أن الكثير من الناس يثورون على من يجرؤ على فضح منتحل الشهادة، ويرى أن في ذلك جلافة وقلة أدب. الشائع بين الناس كرد فعل على معرفتهم حقيقة شهادة شخص ما هو أن يجاملوه تأدباً ولا يجرحوا احساسه حتى بالسؤال ويساعدوه على غشهم ومخادعتهم. وتنوه إلى أن وسائل الإعلام تستضيف الوهميين وتقدمهم للناس بألقابهم، بل تسند إليهم برامج مهمة ليقدموها بألقابهم التي تتناقض تماماً مع نوعية طرحهم وأساليب ادارتهم لها. والثقافة تعج بالألقاب البراقة التي يتشب بها غير المؤهلين، والجهات المسؤولة لا تتدخل لمنعهم، بل تسند إليهم مهام وتصدر قراراتها بتنصيبهم في ادارتها.

أما طمأنينة أصحاب الشهادات الوهمية والمزورة، فإنها كطمأنينة اللصوص ( وفق باعشن) أي هي طمأنينة نسبية، مرتبطة بمستويات الضبط والردع في الفضاء الذي تستشري فيه. فكما أن اللصوص والمختلسين يستمدون طمأنينتهم، ومن ثم تماديهم في فسادهم، من تراخي قبضة النظام، ومن ضعف العقوبات، فكذلك أصحاب الشهادات. وهنا يجب أن ندرك ضرورة ان يكون مستوى الخوف الناتج من الردع النظامي قوياً، أي متجاوزاً لإغراء المطامع المرتبطة بهذه الشهادات، لأن كل اللصوص، في العالم كله، يقيسون ـــ قبل الاقدام على الجريمة ـــ حجم الإغراء بحجم الاخطار المتوقعة، فإذا كان الخطر ضعيفاً من حيث درجته أو احتمال وقوعه، أقدموا، وإلا فلا.

ومن أهم الآليات التي من خلالها يتم مواجهة هذه ” الآفة” تتمثل ( حسب باعشن) في :تكون بإنشاء مؤسسة رسمية لمكافحة هذه الشهادات على غرار ” ادارة مكافحة المخدرات”، بحيث تمارس التفتيش الدوري على هذه الشهادات في كل المؤسسات العامة والخاصة، كما لا بد وأن تؤدي دوراً توعوياً بهذه الظاهرة وخطورتها، إضافة إلى عملها على سن قوانين رادعة، ومتابعة إقرارها وتنفيذها في الوقائع المتعينة، ثم إشهار هذه العقوبات بالأسماء الصريحة.

إلى ذلك، يقول استاذ العلوم السياسية في الجامعة العربية الأمريكية د. أيمن يوسف: شاعت هذه الظاهرة على نطاق واسع في العقد الماضي، وعكست طبيعة أداء بعض الطلبة الفلسطينيين الذين تخرجوا من جامعات لم تمكنهم من مهارات البحث العلمي، وعندما تقدموا لدرجة الدكتوراه في دولة عربية أو أجنبية بقيت تلك المهارات ضعيفة، ما أضطرهم للجوء إلى البحث عما يكتب لهم اطروحات كاملة في هذا الخصوص.

ويضيف” للأسف الشديد هناك بعض ممن يشرف على أطروحات الدكتوراه من الأساتذة هم الذين يكتبون الأطروحة للطلبة مقابل مبلغ من المال، أو يعملون على تيسيير أمورهم، منوهاً إلى أن نزعة الوجاهة الاجتماعية والوصولية وحب الوصول الى المناصب والمكاسب السريعة والغيرة حدت بالبعض للسير في هذا المجال المنافي لأخلاقيات العلم والمعرفة عموماً

وفيما يتعلق بأبعاد هذه الظاهرة، يرى د. يوسف أن من نتائجها زيادة أعداد حملة الدكتوراه الغير مؤهلين والذين يتبوأون مناصب وقيادية عليا، سواء في القطاع الخاص أو الحكومي، أو في المجال الأكاديمي من خلال واسطة معينة، وهذا بدوره يؤثر سلباً على أداء المؤسسة ويخلق خللاً في سوق العمل لأن حامل شهادة الدكتوراه المؤهل لم يجد فرصته المناسب في خدمة المجتمع.

نفس ناقصة ووعي فاسد!

من جانبه أشار الباحث في علم الاجتماع د. بسام عورتاني إلى أن الأسباب التي تدفع هؤلاء الأشخاص للإقدام على ذلك تنقسم إلى أسباب نفسية واجتماعية. النفسية تتمثل في: عدم الثقة بالنفس، اهتزاز بالذات، فساد الوعي، في حين الأسباب الاجتماعية، فتكمن في البحث عن فرص للوصول إلى مكانة اجتماعية دون تعب، حيث عادة من يبحث عن تزوير شهادة الدكتوراه يسعى للطرق الغير شرعية لإثبات الذات اجتماعياً، باعتبار من يحمل شهادة الدكتوراه من نخبة المجتمع. بالإضافة إلى أغراض سياسية في بعض الأحيان، أي من أجل رهانات سياسية والحصول على مكاسب داخل الحقل السياسي عموماً.

وفي الوقت الذي يعتقد فيه د. عورتاني أن هذه القضية لا ترتقي لمستوى الظاهرة، وما هي إلا حالات قليلة، يوضح أن للمؤسسات الرسمية الدور الرئيس في مواجهة هذا السلوك، حيث يقول: تستطيع هذه المؤسسات، وتحديداً وزارة التعليم العالي عمل نظام رقابة وتقييم للطلبة الباحثين عن إنجاز مرحلة الدكتوراه، إذ تستطيع تحديد الجامعات المعترف بها باتفاقيات دولية، سواءً كانت جامعات حكومية أو خاصة، بحيث أن أي مترشح للدكتوراه يجب أن يأخذ موافقة أولية من الوزارة حول الجامعة المراد الدراسة بها في مرحلة الدكتوراه. وأي طالب يحصل على شهادة الدكتوراه بدون الحصول على موافقة أولية حول صلاحية الجامعة لا يتم معادلتها له. إضافة إلى مراقبة التتابع في التخصص، بحيث يكون الاختصاص المرشح له في الدكتوراه مرتبط بالتخصص الأساسي في مرحلة البكالوريوس والماجستير.

وبشأن أبعاد وآثار ذلك على التعليم والبحث العلمي والعلم عموماً، يؤكد د. عورتاني” أنه لا شك بأن التزوير هو جريمة بحد ذاته، فما بالك بتزوير شهادة علمية؟؟ هنا الجريمة مضاعفة لأنها تؤثر بشكل مباشر في نقل المعرفة، وبالتالي هؤلاء غير مؤهلين لذلك، وهذا ما يؤدي إلى إفساد التعليم بشكل مباشر، بالإضافة إلى إفساد العمل العلمي والإداري والمؤسساتي عموماً لأنه يخضع لقرارات أناس غير مؤهله فعلاً.

المواجهة والأبعاد
وحول الآليات التي من شأنها الحد من مخاطر هذه القضية، يبين الباحث د. عورتاني أن آليات الحد منها كثيرة وتحتاج لقرارات حاسمة، ومن أهمها تنفيذ العقاب الرادع بشأن أي شخص يقوم بهذه الجريمة، مع موازاة ذلك بإحكام أنظمة التعليم والشروط الموضوعية للارتقاء العلمي في الجامعات، ومن اهمها طرق انتداب المدرسين في الجامعات يجب أن تخضع لمقاييس علمية صارمة، وأن لا تستند لمقاييس ذاتية مصلحية. “فالأستاذ السيء حتى ولو كان لديه شهادة علمية حقيقية، لا يصلح للتدريس لأنه يؤثر على مسيرة التعليم بشكل مباشر ويؤثر على رفع وعي الطلبة بالمسؤولية العلمية والاجتماعية”.

يرى الباحث صلاح حميدة أن الدوافع للحصول على الشهادات المزيفة غالباً ما تكون نفعية بهدف الاستفادة الوظيفية، والاجتماعية بهدف تحقيق وضعية اجتماعية مميزة. ويضيف ” لا أملك إحصائيات حول حجم وانتشار تلك الشهادات، ولكن تكرار الحديث عن الموضوع بشكلٍ كبير يؤشر على اتساعه، وربما تحوله إلى ظاهرة. ” ويضيف” تقع على وزارة التربية والتعليم العالي مسؤولية كبيرة في هذا الصدد، ومن المهم أن يتم تدقيق ومتابعة قضية التصديق على تلك الرسائل والتواصل مع الجامعات التي يدعي هؤلاء الأشخاص أنهم نالوا شهاداتهم منها.

ويوضح أن اعتماد تلك الشهادات له إخطار كارثية على المؤسسات والتعليم والبحث العلمي، وعلى بنية المجتمع الفلسطيني، ولذلك يعتبر هذا الموضوع خطير جداً أن تفشى وتحول إلى ظاهرة. ويبين أن محاصرة هذه الظاهرة تتم عبر: متابعة الجامعات التي ادعى هؤلاء الأشخاص نيل شهاداتهم منها، التأكيد على مسألة تصديق الشهادات من السفارات الفلسطينية، امتحان هؤلاء الأشخاص من قبل لجنة أكاديمية متميزة تعينها وزارة التعليم بالتعاون مع الجامعات الفلسطينية، بأسلوب مشابه لما يجري مع الاطباء (البورد الفلسطيني).

دكتوراه بحفنة من الدولارات!!

يقول م.ن: إن وجود عدد من الجامعات الوهمية في فلسطين أتاح للبعض الاقدام على هذه ” الجريمة المعرفية” للحصول على ” كرتونة” الدكتوراه، من أجل التباهي والتفاخر والوجاهة الاجتماعية الزائفة، مبيناً أن يعرف 5 أشخاص قد دفع الواحد منهم ما بين (500 ـ 300 دولار) ليحصلوا على هذه الكرتونة، التي هي في الأساس ليست مفخرة لصاحبها بل عارٌ عليه، خاصة أن المجتمع يعلم بهذه الجامعات الوهمية، ويسخر منها.

كذلك، يقول (ه. ع) أنه حصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الانسانية من بعض الجامعات الوهمية في فلسطين بـ500 دولار فقط، موضحاً أنه قام بإعداد بحث مطول، وعلى اساسه منح هذه الدرجة المزيفة والوهمية. وأعرب ( ه.ع) عن ندمه لذلك، منوهاً إلى أن يسعى إلى الحصول على منحة للحصول على شهادة دكتوراه حقيقية.

من جانبه يؤكد الاعلامي أشرف ملحم “أن الفساد الاخلاقي المنتشر بين فئات محددة من الناس هو ما يدفعهم لمثل ذلك، وعدم وجود آليات وضوابط حقيقية من قبل المؤسسة التعليمية والأمنية للحد من ذلك هو أحد الاسباب القوية لانتشار هذه الظاهرة، بالإضافة إلى عدم ثقة المواطن أو الطالب بالمؤسسة التعليمية الفلسطينية على وجه الخصوص”. ويرى أنه قد نشهد لها ظهوراً قوياً في السنوات القادمة”.

أين المسؤول؟!

ويرى ملحم أنه يجب أن يكون للمؤسسات الرسمية، وتحديداً وزارة التربية والتعليم العالي دوراً في مواجهة هذا العمل، عبر: مراسلة أي جامعة حول العالم للتأكد من صحة الأوراق والشهادات، إجراء اختبار فعلي في فلسطين لكل من يحمل شهادة، وبحاجة لمعادلتها للعمل في فلسطين أو للتعليم أو غيره، وجوب تشكيل وحدة متابعة خاصة مع هذه الجامعات وخاصة المشكوك بأمرها، انزال عقوبات رادعة من قبل المؤسسة الأمنية لكل من تثبت عليه شبهة التزوير العلمي، تعديل النصوص القانونية التي تعتمدها وزارة التربية والتعليم العالي من أجل معادلة الشهادات العلمية لديهم، وهو قانون بالي وقديم وبحاجة لتطوير.

يقول الباحث علي أبو زهيرة أن العامل النفسي يُعد إحدى الأسباب الكامنة وراء الحصول على الشهادة المزورة؛ فهي في بعض الأحيان تتجه نحو تحقيق الذات، موضحاً أن هناك عدة حالات تندرج حول الحصول على الشهادة المزورة، هي: حالة النقص والتناقض الموجودة لبعض الاشخاص، فمثلاً هناك شخص يعمل بمنصب رفيع، ولا يحمل الشهادات العليا، ولديه موظفين ذو درجات علمية أعلى ولكنهم اقل منصبا بالوظيفة هنا يكمن النقص والتناقض لدى الشخص ليبحث على علاج للنقص والتناقض لملء الفراغ.

أما الحالة الثانية (وفق أبو زهيرة) فتتمثل في عدم القدرة، فهناك أشخاص عديمي القدرة على كتابة اطروحة الدكتوراه (غير كفؤ لإنجاز الأطروحة). ويضاف إلى ذلك، الجانب المادي المتعلق ببعض الاشخاص ذوو الدخل المرتفع والمكانة الاجتماعية، إذ يسعى هؤلاء إلى الفخر والمباهاة، إلى جانب سعي بعض العائلات لأن يحصل أبنائها على الشهادات العلمية العليا، وهم بالأساس غير قادرين على تحقيق ذلك.

ويرى أبو زهيرة أن شهادات الدكتوراه المزورة تكون في العلوم الاجتماعية بشكلٍ أكبر عما هو عليه في العلوم التطبيقية التي تحتاج إلى خبرات عملية وتطبيق ميداني دائم. وفيما يتعلق بمهام الوزارة في هذا المجال، يبين أنه يتوجب عليها اعتماد الشهادات العلمية من الجامعات المعترف بها فقط، ووضع برنامج خاص للطلبة المتقدمين للدراسة بالخارج وفق منح عن طريق الوزارة فقط، وضع رقابة على الطلبة خلال فترة الدراسة، وبالأخص خلال فترة مناقشة الأطروحة، وتحديد امتحان مزاولة لحملة الشهادات، وتكوين علاقات خاصة مع كافة الجامعات العربية والعالمية التي تستقبل الطلبة الفلسطينيين.

الوزارة ترد!

واستناداً إلى كل ما سبق ذكره، قمنا بمقابلة ‏مدير دائرة تصديق واعتماد الشهادات‏ لدى ‏وزارة التعليم العالي الفلسطينية‏ رائد بركات، حيث قال: أنه يستحيل تمرير أي شهادة دكتوراه وهمية أو مزورة من قبل الوزارة نظراً لعملية الضبط والمعايير الواجب التقيد بها من قبل حاملها، إذ أن هناك عملية متابعة ومخاطبة بين عديد الأطراف للتأكد من صحة هذه الشهادة؛ تبدأ بمراسلة وزارة التعليم للسفارة الفلسطينية في الدولة الصادرة منها شهادة الدكتوراه، والتي بدورها تخاطب وزارة التعليم العالي في تلك الدولة، والتي هي بدورها تراسل الجامعة، ليتم الرد من قبل سفارة دولة فلسطين لوزارتنا بشأن صحة تلك الشهادة.

وإلى جانب ذلك، يوضح بركات أن تلك الشهادات يجب أن تحمل تسلسلاً للأختام الممهورة عليها، حيث أن الوزارة لا تقبل إلا الشهادات الأصلية وعليها تتابع الأختام( ختم الجامعة، ختم التعليم العالي في الدولة، ختم وزارة الخارجية لتلك الدولة، سفارة فلسطين في الدولة، وزارة الخارجية الفلسطينية)، موضحاً أنه إضافة لتلك الأختام يتم الاستفسار عن حقيقة الشهادة كما تم تبيانه سابقاً.

وعن مدى وصول الوزارة شهادات مزورة للتصديق عليها، بين بركات أنه تم اكتشاف حالتين، وتم تقديمهما الى النيابة العامة، مشيراً إلى أن أصحاب هذه الشهادات قد قاموا بتزوير شهاداتهم، أو لم يدرسوا أصلاً، وقاموا بشراء شهاداتهم من أطراف عدة مقابل مبلغاً من المال.

ويوضح بركات أن أي جامعة غير معترف بها لا يمكن التصديق على شهاداتها، حيث أن الشهادة الصادرة من هذه الجامعات غير معتمدة في فلسطين، ولا يتم تصديقها أو معادلتها، منوهاً إلى أن الوزارة تنشر بين حين وآخر اعلاناً في وسائل الإعلام، وعلى موقعها تحذر من هذه الجامعات أو الانتساب اليها، إلى جانب تعميم الوزارة لنشرة ارشادية قبيل الاعلان على نتائج شهادة الثانوية العامة يتم فيها تبيان الاجراءات الواجب اتباعها قبل التسجيل في الجامعات الخارجية. ويدعو بركات إلى ضرورة التنبه من قبل الطلبة وأولياؤهم لطبيعة الجامعات ومدى اعتراف وزارة التعليم العالي الفلسطيني بها.

وبهذا، إن الذين يتنافسون في محاولة تلويث طهارة العلم عبر شراء شهادة الدكتوراه أو استئجار مرتزقة البحث ما هم إلا قراصنة، ومجرمين بحق العلم والمعرفة…هؤلاء اللصوص يتوجب الاشهار بهم، وتشكيل محكمة خاصة بهم. مثل هذه الطحالب البشرية خطيرة على العلم، وعلى الأجيال لما ينشرونه من جهل، أو تقلدهم لمناصب عليا وهامة. سيبقى العلم طاهراً بطهارة أهدافه ووظيفته، بينما هؤلاء ستبقى نفوسهم فاسدة، وعقولهم صدأة لتعلقهم بحرف (الدال) المزيف. أما الذين كدوا إلى حد الارهاق البدني والنفسي والعصبي المطلق فلهم منا الود والاحترام، لأنهم أخلصوا للعلم فأخلص لهم، وصادقوا الأمانة لتغدق عليهم بعلم وفير، وشهادة متميزة.
دنيا الوطن




مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.