تسود أجواء الحرب في كرري شمالي أم درمان وأحياء أم درمان القديمة جنوبا، رغم أنها البقعة الوحيدة بولاية الخرطوم التي ما زالت تتمتع ببعض بريق العاصمة.
ودمرت الحرب التي اشتعلت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023 العاصمة السودانية وحولت كل مدن الخرطوم إلى مسارح للعمليات العسكرية، خاصة من اتساع سيطرة الدعم السريع.
لكن محلية كرري أقصى شمالي أم درمان الواقعة تحت سيطرة الجيش ما زالت تنبض بالحياة خاصة بعد اتساع رقعة سيطرة الجيش جنوبا وإزاحة الدعم السريع من الأحياء القديمة في محلية أم درمان إثر معركة شرسة في مارس الماضي.
وتتلمس أحياء المدينة القديمة مثل ود نوباوي وبيت المال والملازمين وبانت والموردة والعباسية وأبو روف وود البنا والقماير طريقها إلى التعافي ببطئ، لكن حياة العاصمة تتبدى بكل صخبها شمالا في ضاحية الثورة والريف الشمالي بمحلية كرري.
تطبعت حياة السودانيين في أم درمان مع مظاهر ومآسي الحرب لجهة أن المدينة ورغم اكتظاظها بالمدنيين ما زالت تتعرض للقصف المدفعي، كما أن انتشار ارتكازات الجيش في الطرق وأصوات المدافع والأسلحة الخفيفة يظل سمة المنطقة.
دمار واسع طال المنازل
لعبة الموت والحظ
توجه قوات الدعم راجماتها ونيران مدفعيتها صوب أم درمان من مناطق سيطرتها على امتداد الضفة الشرقية لنهر النيل ابتداءا من المقرن وجزيرة توتي بالخرطوم مرورا بأحياء الخرطوم بحري وانتهاءا بالريف الشمالي للخرطوم بحري في الجيلي وقري.
وعليه تتعرض أم درمان القديمة من أقصى جنوبها في بانت والمهندسين مرورا بضاحية الثورة وحتى الريف الشمالي لأم درمان في السروراب والجزيرة إسلانج للقصف المدفعي المتكرر.
كما تستهدف قوات الدعم السريع من مناطق سيطرتها غربي أم درمان في أجزاء من أم بدة، مناطق سيطرة الجيش في الحارات الغربية لضاحية الثورة.
وحسب مسؤول في ولاية الخرطوم التي تتخذ من محلية كرري بأم درمان مقرا لها فإن السلطات المحلية ليس لديها إحصاء للقتلى والمصابين جراء القصف المدفعي للدعم السريع على أم درمان منذ بدء الحرب.
ويقول المسؤول الذي فضل حجب اسمه لأنه غير مخول بالحديث للصحافة، إن وتيرة القصف تزايدت أخيرا وزاد معها عدد الضحايا، قتلى وجرحى وتدميرا للمنازل والمرافق العامة.
وكانت لجان المقاومة وهي كيانات شبابية قادت المظاهرات ضد انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021، هي التي تتولى إصدار البيانات الخاصة بضحايا القصف.
لكن مع تزايد وتيرة القصف أخيرا بدأت السلطات المحلية الانتباه لضرورة إصدار بيانات رسمية لوزارة الصحة بولاية الخرطوم حول القتلى والجرحى جراء القصف.
وفي آخر قصف مدفعي مكثف لقوات الدعم السريع الأربعاء الفائت 18 سبتمبر الحالي، أفادت وزارة الصحة في ولاية الخرطوم بسقوط قتيلين، بينهما طفل، و10 مصابين نقلوا إلى عدة مستشفيات، بسبب قذائف مدفعية تساقطت في أحياء المنارة والثورة بمحلية كرري.
ويستهدف القصف المدفعي للدعم السريع الذي يأتي غالبا في سياق قصف متبادل مع الجيش صوب الخرطوم بحري، أحياء مكتظة بالسكان المدنيين في أم درمان وهو ما جعل الأطفال والنساء عرضة للموت أو فقدان الأطراف.
وتأوي أحياء أم درمان بالإضافة إلى سكانها فارين من القتال من سكان الخرطوم والخرطوم بحري ومحلية أم بدة غربي أم درمان، فضلوا التعايش مع القصف والمظاهر العسكرية في محلية كرري.
ويقول فائز حسب البارئ الذي فضل الانتقال من شمال بحري إلى أم درمان “إن الخطر على الضفة الأخرى للنيل – يقصد الخرطوم بحري – دائم ومقيم بين الناس، لكن هنا في أم درمان نشعر بالخطر فقط عند القصف المدفعي”.
يحاول السكان استعادة الخدمات
حياة مع الحرب
يقاوم السكان في أم درمان الخوف وهم مضطرون للبقاء في ظل الحرب وتراجع سوق العمل، لجهة أن المغادرة إلى الولايات الآمنة أو إلى خارج السودان، خيار غير متاح للكثيرين.
وعوضا عن أسواق أم درمان الرئيسية مثل سوق أم درمان والسوق الشعبي وسوق ليبيا، التي إما دمرت أو نهبت أو حرقت خلال الحرب، نشأت
أسواق وملاذات للسكان على الطرق الرئيسية في ضاحية الثورة خاصة على شوارع الوادي والنص والشنقيطي.
ويقول المتحدث باسم حزب البعث العربي الاشتراكي والعضو السابق في اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير عادل خلف الله إن الحرب دمرت عمدا قواعد ومؤسسات الإنتاج الصناعية والزراعية والشركات والورش والمخازن، إلى جانب النهب والتخريب الذي طال الممتلكات الخاصة والعامة والأسواق والمصارف والمرافق الخدمية للتعليم والصحة والكهرباء والمياه.
ويضيف خلف الله لسودان تربيون أن قطاعا واسعا من سكان محلية كرري وجدوا أنفسهم بلا مصادر دخل وهيمن النشاط التجاري – إجمالي وتجزئة – وما يرتبط به من سلاسل الخدمات والأعمال الوسيطة مثل النقل والتخزين والتوزيع والعرض أمام المحال وعلى جنبات الطرق الأكثر أمنا، لكون أن كرري المنفذ الوحيد للعاصمة المرتبط بمناطق الإنتاج بولايتي الشمالية ونهر النيل.
ونجم عن ذلك – حسب خلف الله – نمو أسواق كسوق صابرين والمرافق التحارية على امتداد شارع الوادي من وسط أم درمان إلى أقصى شماب كرري، ما ساهم في جذب العاملين في التجارة ودخول أصحاب مهن أخرى مضمار التجارة بعد فقدان وظائفهم وتوقف رواتبهم.
ويشير خلف الله، الذي بدوره يمارس حاليا التجارة في مواد البناء، إلى الازدياد المضطرد في لافتات بيع وشراء الذهب حيث يمكن إحصاء نحو 30 محلا وشركة على شارع الوادي كمثال فى مسافة لا تتعدى كيلومترين.
يشار إلى أن هذه المناطق نشأ فيها قطاع واسع من الوسطاء بحثا عن الرزق لمواجهة الاختلال الكبير بين الدخل ومستويات أسعار السلع والخدمات، بينما يعتمد قطاع واسع على تحويلات ذويهم من خارج البلاد.
ويشير عادل خلف الله إلى ازدهار قطاع العقارات وتجارة السيارات ووسائل النقل ويلاحظ أن أكثر الممارسين لها من القطاع العسكري والأمني.
لكن الرجل يؤكد أنه في العموم تعاني الأسواق من ركود مظاهره تنامي العرض مع انكماش الطلب بما في ذلك أسواق المواد الغذائية بسبب تآكل القوى الشرائية لانخفاض سعر الجنيه أمام الدولار وتناقص تحويلات الخارج مع استمرار الحرب.
ويحذر من أنه ما لم تتوقف الحرب سيستمر التدهور الاقتصادي والاجتماعي وتداعياتها على حياة وصحة وتعليم وأعمال الناس.
ويشير إلى تحدي آخر يتمثل في سلوك المحليات في الجباية ومطاردة الباعة، الذين فقدوا أسواقهم ومحالهم أو امتهنوا مهن بديلة بذات أساليب وأدوات ما قبل الخرب، اضافة إلى المؤسسات الإيرادية كالضرائب والزكاة والدفاع المدني ووزارة الصحة والمواصفات والمقاييس، والتي تفرض رسوما لا تتناسب مع واقع التجار وبلا خدمات مقابلة.
مشاهد من الدمار
مقومات البقاء والعودة
على الرغم من مظاهر الحرب البادية على ملامح أم درمان يظل توفير وتحسين خدمات المياه والكهرباء والأمن تحديا واجب النفاذ من أجل تحفيز بقاء وعودة السكان.
وتشهد أحياء أم درمان القديمة عودة بطيئة للسكان، بعضهم سكان مناطق أخرى مثل أحياء شمال الخرطوم بحري، اضطروا إلى الهروب من انتهاكات الدعم السريع إلى أم درمان.
وتقول “ف ح” لسودان تربيون، وهي من سكان حي حلفاية الملوك بالخرطوم بحري إنها منذ الحرب اضطرت للنزوح عدة مرات، إلى ولاية الجزيرة، ثم إلى الفكي هاشم شمال الخرطوم بحري ومنها عبرت النيل مع أسرتها إلى أم درمان حيث يقيمون في منزل صديق للأسرة في حي ود البنا وسط المدينة.
وتشتكي “ف ح” من كثرة البعوض ونواقل الأمراض التي تسببت في تفشي حميات مجهولة. وتتابع بالقول “نتعايش مع أصوات الرصاص وقيود الحركة في الحي الذي ما زالت الحركة فيه محدودة وتتوقف بعد مغيب الشمس بقليل”.
وطبقا لمراسل سودان تربيون ما زالت أعمال الصيانة تجري على خطوط شبكة الكهرباء ومحطات المياه، لكن حجم الدمار الكبير في مناطق مثل حي ود نوباوي العريق تجعل عودة السكان في الوقت الراهن شديدة الصعوبة.
على صعيد توفير الأمن بدأت الشرطة خلال سبتمبر الحالي في نشر دوريات راكبة وراجلة في محلية كرري شمالي أم درمان للحد من جرائم النهب تحت تهديد السلاح التي أسفرت عن بعض جرائم القتل.
وفي أحياء أم درمان القديمة التابعة لمحلية أم درمان أفادت الشرطة في وقت سابق باعادة افتتاح أقسام باشرت استقبال البلاغات والعمل الجنائي في المناطق التي استعادها الجيش من قوات الدعم السريع.
وحسب المكتب الصحفي للشرطة فإن شرطة محلية ام درمان أعادت تاهيل وصيانة سبعة أقسام جنائية هي (الشمالي أم درمان – السوق – الأوسط – الجنوبي – أبو سعد شمال – الكبجاب – الدوحة)، وأصبحت هذه الأقسام جاهزة لأداء مهامها من حيث القوة العاملة ومعينات العمل الأخرى لتقديم الخدمات الأمنية ومباشرة فتح البلاغات وتلقي الشكاوى إضافة لعملية تأمين الأحياء والأسواق عبر انتشار القوات بالإرتكازات وتنفيذ الحملات لمنع الجريمة.
ويقول اللواء صالح حسن بخيت مدير شرطة محلية أم درمان إن النيابة أيضا باشرت مهامها وأكد جاهزية قوات الشرطة لتأمين أحياء أم درمان والأسواق والمواقع المهمة توطئة لعودة المواطنين لمنازلهم.
وأشار إلى اكتمال صيانة وتأهيل اقسام (الصناعات – المهندسين – أبو سعد جنوب)، استعدادا لمباشرة العمل بها ليكتمل عدد الأقسام العاملة بالمحلية إلى عشرة اقسام شرطة.
لكن تبقى إزالة آثار الدمار الواسعة الذي تعرضت له أحياء أم درمان العريقة في وسط المدينة أكبر عائق أمام سريان الحياة في أوصال هذه المنطقة، أسوة بالأجزاء الشمالية لأم درمان.
سودان تربيون