العدالة الانتقالية في جنوب السودان بين السلام ومحاسبة الجناة
العدالة الانتقالية في جنوب السودان بين السلام ومحاسبة الجناة
_ محمود اكوت _
في الآونة الأخيرة، أصدرت إحدى المحاكم الفرنسية حكمًا بالسجن 27 عامًا على الطبيب الرواندي يوجين رواموكيو، لإدانته بالتواطؤ والتآمر في الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها ما يقرب من 800,000 شخص في رواندا عام 1994، ويُعتبر هذا القرار انتصارًا للعدالة، وتأكيدًا على مبدأ المحاسبة.
هذا الموقف يسلط الضوء على التزام الدول الغربية بمحاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، حتى بعد مرور عقود طويلة على وقوعها. وعلى هذا المنوال، يبرز التساؤل: هل يمكن لدولة جنوب السودان، التي شهدت جرائم مشابهة ومآسيَ إنسانية في السنوات الأخيرة، أن تجد طريقها إلى العدالة والمحاسبة على النحو الذي تمّ في فرنسا؟
شهدت جنوب السودان موجات متتالية من العنف والنزاعات، خلفت آثارًا مدمرة على البلاد وشعبها، حيث وقعت مذابح جماعية وجرائم اغتصاب وتشريد قسري لآلاف المدنيين خلال أحداث 2013 وتجددها في 2016.
ورغم أن حكومة جنوب السودان قد اتخذت خطوات نحو تأسيس حكومة انتقالية، وعقدت اتفاقيات سلام، فإن غياب العدالة والمحاسبة عن الجرائم المرتكبة يعمّق جروح الماضي، ويهدد مستقبل السلام، كما يزيد من احتمال تكرار العنف واستمرار النزاعات.
التمرّد المستمر: نتاج غياب العدالة
تعاني جنوب السودان من دائرة مستمرة من التمرُّد والنزاعات المسلحة، ويعود أحد أسباب ذلك إلى ثقافة الإفلات من العقاب؛ فعدم محاسبة المسؤولين عن الجرائم قد أرسى اعتقادًا ضمنيًا لدى القادة العسكريين والسياسيين بأنهم في مأمن من المحاسبة، وأنهم يتمتعون بحماية العفو التلقائي والحصانة عبر الاتفاقيات السياسية.
إذ إن منح الحصانة للمتورطين في جرائم الحرب، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، يغذي هذه الدائرة، ويشجع المزيد من القادة على اللجوء إلى العنف والتمرد لتحقيق أهدافهم السياسية، وذلك على اعتبار أن أفعالهم ستظل محمية من العقاب.
وإذا لم يتم تضمين العدالة الانتقالية كجزء أساسي من الاتفاقيات، فإن خطر تكرار أحداث العنف يظل قائمًا. فأي تسوية سياسية لا تتضمن محاسبة مرتكبي الجرائم والانتهاكات هي تسوية مؤقتة، لأن العدالة ليست مسألة يمكن تجاوزها، بل هي مطلب أساسي للمصالحة الوطنية والاستقرار الدائم.
دور المجتمع الدولي في تحقيق العدالة
يمكن للمجتمع الدولي، وخاصة الدول الغربية والمؤسسات القانونية الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، أن تأخذ دورًا حاسمًا في دعم مسار العدالة الانتقالية في جنوب السودان؛ فعبر تقديم المساعدات التقنية، وتسهيل تحقيقات شاملة ومحايدة، يمكن للدول الغربية أن تساهم في ضمان محاسبة المتورطين في هذه الجرائم.
لا يكفي تقديم الدعم السياسي أو الاقتصادي لتحقيق السلام، إذ يجب أن يتضمن هذا الدعم أيضًا التزامًا بمبادئ العدالة الانتقالية.
كما يمكن للدول الأوروبية أن تقدم نماذج إيجابية في محاكمة المتهمين بجرائم الحرب، كما رأينا في حالات رواندا أو يوغوسلافيا السابقة، وأن تشجع جنوب السودان على الالتزام بالمعايير الدولية في مجال حقوق الإنسان. إن التوجه نحو العدالة الانتقالية، الذي يضمن حقوق الضحايا، ويحاسب مرتكبي الجرائم، يمثل خطوة حقيقية نحو بناء دولة القانون، وتحقيق سلام مستدام.
العدالة والمصالحة الوطنية: أساس التعايش السلمي
إن بناء مستقبل مستقر في جنوب السودان يتطلب أكثر من مجرد توقيع اتفاقيات سياسية؛ فهو يتطلب معالجة الجروح العميقة التي خلفتها سنوات الحرب، من خلال تحقيق العدالة وتعويض الضحايا.
فالتنازل عن العدالة بحجة تحقيق الاستقرار السياسي لا يؤدي سوى إلى زعزعة الثقة في الحكومة والنظام القضائي، ويُبقي على حالة من عدم اليقين والانقسام المجتمعي، لأن الشعب الذي عانى من ويلات الحرب والعنف يحتاج إلى الاعتراف بمعاناته، وحقه في رؤية مرتكبي الجرائم ينالون جزاءهم.
وفي هذا السياق، يتضح أن غياب المحاسبة لا يعني الإفلات الدائم من العقاب، إذ يمكن مع مرور الزمن أن تفتح ملفات الجرائم، وتخضع الأطراف المتورطة لمحاكمات تاريخية تضمن إنصاف الضحايا وإعادة بناء الثقة في المجتمع، كما رأينا في أمثلة مشابهة حول العالم.
النداء للمجتمع الدولي: المحاسبة أساس السلام الدائم
في الختام، ينبغي على المجتمع الدولي أن يدرك أن العدالة الانتقالية ليست مجرد مفهوم نظري، بل هي مطلب أساسي لضمان السلام والاستقرار. إن جرائم الحرب والانتهاكات التي شهدتها جنوب السودان تتطلب موقفًا قويًا من الدول الكبرى والمؤسسات الدولية لدعم العدالة والمحاسبة.
ويمكن للمجتمع الدولي أن يسهم في تحقيق المصالحة عبر تبنّي تحقيقات شاملة، ودعم إنشاء محاكم وطنية ودولية متخصصة، لضمان عدم تكرار هذه المآسي.