صراع البنادق والمزامير.. أنغام الموت والحياة خلال أيام الحرب في السودان
في وطن تتصارع فيه المدافع وتتصاعد فيه ألسنة اللهب، تظل أصوات الموسيقى ونغماتها حاضرة، كفنٍ، وكصراعٍ من أجل البقاء. في شوارع الخرطوم وأزقتها المهجورة وفي المخيمات المكتظة بالفارين، وحتى بالمنافي، تتردد ألحان الحنين والصمود. أغنيات مثل “أوضيتي في الجزيرة” لإيمان الشريف، “خيوط العنكبوت” لفدوى فريد” و”صباح انتباهك” لود الزين، التي تحولت لترند بوسائل التواصل الاجتماعي، محققة مشاهدات مليونية، لم تعد مجرد أغنيات عابرة، بل صرخات تجسّد آلام وأحلام شعب بأكمله.
ففي مواجهة الموت والنزوح، تحولت الموسيقى السودانية إلى سجل يوثق الخوف والأمل. وتجاوزت خانة التسلية أو التعبير الفني، لتصبح مرآة حقيقية تعكس الألم الجماعي والتقلبات السياسية والاجتماعية.
كيف تطورت الأغاني السودانية في ظل النزاع الراهن؟ وما هو دورها في صياغة الوعي الجماعي أو حتى توجيه مسار الأحداث؟ هل يمكن أن تكون الموسيقى عاملًا يوحّد السودانيين في مواجهة التشظي والانقسام؟
الموسيقى السودانية.. بين الإرث الثقافي والتحولات السياسية
لعبت الموسيقى السودانية عبر التاريخ دورًا محوريًا في تشكيل الهوية الوطنية وتوثيق الأحداث السياسية. فمن أغاني “أنا سوداني” لإبراهيم الكاشف و”عزة” لخليل فرح التي عبّرت عن الكبرياء الوطني، إلى أغاني الثورات مثل “أكتوبر الأخضر” لمحمد وردي، كانت الموسيقى دائمًا مرآة للحراك الشعبي.
لكن، كيف تغيّرت هذه الموسيقى مع تعقّد المشهد السياسي والاجتماعي؟ يقول الموسيقار الدكتور كمال يوسف لـ”العربية.نت”: “الموسيقى السودانية دائمًا كانت مرتبطة بتحولات الواقع السياسي، لكن التعبير الأوضح كان خلال ثورة ديسمبر، حيث كانت الأغاني جزءًا من أدوات الثورة نفسها”.
زمن الحرب.. إنتاج فني تحت القصف
منذ اندلاع الحرب في السودان، تأثرت الموسيقى والغناء بشكل غير مسبوق. توقفت المهرجانات، والحفلات العامة والخاصة، وأُغلقت المسارح، وتفرق الفنانون بين الهجرة والنزوح. فقدت الموسيقى السودانية أدواتها المادية والإبداعية في ظل الانهيار الكامل للبنية التحتية الثقافية. وتوقف الفنانون عن تقديم حفلاتهم في الخرطوم أو بالولايات بسبب الأوضاع الحالية، بينما لجأ بعض الفنانين الشباب إلى تسجيل أغانيهم عبر هواتفهم المحمولة كوسيلة للبقاء على قيد الإبداع.
وفي هذا السياق، يقول الناقد الفني مصعب الصاوي، لـ”العربية.نت”: “لا شك أن الحرب ألقت بظلالها على كل أشكال التعبير الفني كما ألقت بظلالها على واقع المواطن السوداني، وحولته من حالة الاستقرار والأمان إلى الخوف والتشرد والنزوح، ومواجهة التهديدات بشكل يومي. وبالتالي، انعكس هذا التحول على فنون الغناء والموسيقى باعتبارها سجلاً ومدونة لما يعيشه المواطن في واقعه تحت أتون الحرب. والفنان هو مواطن أولاً ومبدع ثانياً، والفن بطبيعته دعوة للخير والحب والسلام”.
لم يتراجع الاهتمام بالموضوعات التقليدية كما هو متوقع، بل تم استدعاء أغان وطنية من الذاكرة، وظلت هذه الأغاني متداولة. وذلك بقياس بسيط؛ كم عدد الأغاني التي أنتجت في زمن الحرب؟ ستجد أنها لا تتجاوز عشرة في المئة مقارنة بالأغاني التي تم استدعاؤها من الأرشيف للأغاني الوطنية خاصة. وهذا ما حدث في ميدان الاعتصام وإبان ثورة ديسمبر المجيدة، حيث تم استدعاء “وطنيات” الفنانين أبو عركي البخيت ومحمد الأمين ووردي والكابلي ومصطفى سيد أحمد وعقد الجلاد، وما تم إنتاجه من أغان خلال فترة الحراك الديسمبري قليل مقارنة بما تم استدعاؤه من الذاكرة، خاصة الذاكرة الثورية.
بطبيعة الحال الحرب والتشرد أنتجت حالة من النوستالجيا والحنين، خاصة للمشردين والمهاجرين، فيتم استدعاء الغناء لخلق حالة من التوازن النفسي. أنا شخصياً تلقيت أكثر من عشرين رسالة موضوعها أغنية واحدة: “متين أرجع لأم در وأعودها؟”.
فقد أحدثت الحرب تحولاً نوعيًا في إنتاج الأغاني التي تروي قصص المعاناة والنزوح والتشرد والانتهاكات التي تعرض لها المواطنون في سردية النزاع، خاصة ما حدث في ولاية الجزيرة من قبل قوات الدعم السريع. وتعتبر أغنية إيمان الشريف “إويضتي في الجزيرة” من أكثر الأغاني تعبيرًا عن مأساة الجزيرة وما حدث لأهلها من قتل وترويع وتشريد على يد الدعم السريع. في سياق المآسي، تعكس كلمات الأغنية مشاعر الفقد والاغتراب التي يعيشها السودانيون، خاصة النازحون والمشردون.
لذا، أصبحت أغنية ” أوضيتي” وتعني “الغرفة” باللهجة السودانية، رمزًا للوجع الجماعي، يعبر من خلاله السودانيون عن أملهم في العودة لحياة مليئة بالسلام والاستقرار.
كما أطلقت المطربة الأبنوسة فدوى فريد أغنيتها “خيوط العنكبوت”، التي تسرد بأسلوبها الخاص تداخلات الأمل واليأس.
أما على مستوى الذاكرة والأرشيف، كما – يؤكد الصاوي- ظلت الأغاني الوطنية هي الأكثر حضوراً في زمن الحرب، لا سيما تلك الأغاني التي تمجد الشخصية السودانية وتفخر بتاريخها ونضالها.
ويضيف الصاوي لـ”العربية.نت”: “قطعا مثلَت الحرب تحدياً آخر للفنانين، فالفنان في زمن الحرب لا يتوفر له ذلك المناخ المثالي من بروفات وتحضير، وفرقة موسيقية مكتملة العدد، واستوديوهات مكتملة المواصفات، وكذلك وسائط البث التي من خلالها يخاطب الفنان جمهوره. لذا نلاحظ أن معظم الإنتاج الفني في زمن الحرب لجأ إلى الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت لنشر هذا المحتوى”.
وينهي الصاوي حديثه لـ”العربية.نت” قائلا بأن الفنون بشكل عام تقدم رسالتها لصالح الإنسان، حياته واستقراره، وهي بذلك دعوة للحق والخير والجمال.
الموسيقى بين السلام والحرب
في ظل انقسام المجتمع السوداني بين مؤيد ومعارض للحرب، أصبحت الموسيقى تعكس هذا الانقسام أيضًا. الدكتورة أسماء جمعة، اختصاصية علم الاجتماع، ترى، في تصريح لـ”العربية.نت”، أن الموسيقى لم تكن دائمًا صوتًا للسلام. فالموسيقى، رغم ارتباطها التاريخي الوثيق بقيم السلام والحب والجمال وغيرها من القيم الاجتماعية الخيرة، لها كذلك ارتباط تاريخي بقيم الحرب والمناسبات السياسية.
ومثلما تُستخدم الموسيقى لدعم السلام والمحبة والتناغم الاجتماعي، تُستخدم أيضًا للتشجيع على القتال والحرب وشحذ همم المقاتلين. الاتجاهان موجودان في كل الثقافات تقريبًا، والثقافة السودانية هي ثقافة غنية بالنوعين.
وتابعت: ولكن موسيقى السلام هي الأكثر طلبًا، لأن مناخها هو المناخ الإيجابي ورغبة الناس في السلام أكبر، والمجتمعات عادةً تدعم السلام، وهو الأمر الطبيعي لأن المجتمعات تتطور وتزدهر في ظل السلام. من الطبيعي أن يدعم المجتمع هذا الاتجاه.
احتراب حتى بالموسيقى والغناء
وتؤكد الدكتورة أسماء جمعة بأن الحرب الحالية في السودان، التي انقسم حولها الناس بين داعمين للسلام وداعمين للحرب، جعلت كل طرف يستخدم الموسيقى لخدمة توجهه. والموسيقى، بقدر ما يمكنها دعم قيم السلام، يمكنها أيضًا أن تشجع على الحرب. وقد رأينا بعض الفنانين الذين يدعمون الحرب، واستدعوا الكثير من أغاني الحماسة القديمة وابتكروا مثلها في أعمال جديدة، وهي ردة اجتماعية تستدعي الوقوف، مهما كانت أسباب الحرب، خاصة أن الحرب تدور بين أبناء البلد الواحد، وليس هناك عدو مشترك يمكن أن توحد الموسيقى، الشعب ضده.
من جانبه، قال أستاذ الموسيقى، الدكتور كمال يوسف: “الموسيقى السودانية تحمل رسائل سياسية واجتماعية واضحة، حيث تتنوع بين دعوات السلام ووقف الحرب، وأخرى تحرض على استمرار القتال. هذا التباين يعكس اختلاف وجهات النظر حول طبيعة الصراع في السودان”.
ويضيف الموسيقار كمال يوسف: “الأغاني التي نادت بالسلام مثل أغنية “أكتوبر الأخضر” كان يمكن أن تشكل قاعدة لبناء سودان مستقر ومزدهر، لكن للأسف الحرب تجد من يدعمها، وهم غالبًا من لا يقدرون معاني السلام والاستقرار”.
لايمكن إغفال دور الجمهور
لا يمكن إغفال الدور الذي يلعبه الجمهور السوداني في صياغة أهمية الأغاني وتأثيرها. يشير الدكتور كمال يوسف إلى أن “الجمهور السوداني دائمًا ما كان شريكًا في صناعة الأغنية الوطنية، من خلال تفاعله العاطفي ودعمه للأغاني التي تعبر عن همومه”.
هذا التفاعل أصبح أكثر وضوحًا في الشتات، حيث تعود الأغاني القديمة إلى الواجهة. يقول يوسف: “أغاني مثل “يا وطني يا بلد أحبابي” للفنان الراحل سيد خليفة، تثير مشاعر عميقة بين السودانيين في الخارج، لدرجة أن البعض يبكي عند سماعها”.
الشعر واللحن.. أين التجديد؟
رغم وجود أغان جديدة تعبّر عن الواقع، إلا أن البعض يرى أن التجديد على مستوى الشعر واللحن لم يصل إلى المستوى المطلوب. يقول الدكتور يوسف: “ما زلنا بحاجة إلى دراسات أعمق لرصد التحولات التي طرأت على بنية الأغنية السودانية، خاصة في ظل الحرب”.
ختامًا في ظل صراع البنادق والمزامير، تبقى الموسيقى السودانية شاهدًا حيًا على الألم والأمل، ورمزًا لصمود شعب يواجه تحديات الحرب والنزوح، بينما يحمل في قلبه نغمات تعكس تطلعاته نحو السلام والاستقرار.
العربية نت