مأساة الهلالية… آلاف السودانيين يحاصرهم الدعـ،،م السـ،،ريع
تعرضت مدينة الهلالية السودانية لهجمات عسكرية وانتهاكات واسعة من قبل قوات الدعم السريع خلال الأسابيع الأخيرة، إذ لم يُسمح للسكان بمغادرة المدينة والنزوح إلى الولايات المجاورة، ومُنعوا من الحصول على الغذاء والعلاج، واحتجز بعضهم رهائن، ولم يطلق سراحهم إلا بعد مبالغ مالية طائلة.
ونجح بعض سكان المدينة في المغادرة، لكنهم ساروا على الأقدام عشرات الكيلومترات للوصول إلى المناطق الآمنة، ومات كثيرون في الطريق، خصوصاً من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة.
وتمكن نحو 400 من سكان الهلالية من عبور نهر النيل الأزرق إلى مدينة “أبو عشر”، وهناك استقبلهم الأهالي، لكن أوضاعهم متدهورة، وتعرض عدد منهم لانتكاسات صحية، ولم تقبل أجسادهم المنهكة سوى المحاليل الوريدية كونهم لم يأكلوا لعدة أيام، ما أدى إلى وفاة العديد منهم.
ووفق آخر الإحصاءات، لقي أكثر من 500 شخص حتفهم داخل المدينة نتيجة الاستهداف، أو نتيجة الأمراض، كما تعرض المئات لحالات تسمم مجهولة المصدر، وهناك من يرجح حدوثها بسبب تناول الذرة المخلوطة بسماد اليوريا، وآخرون يرجحون تسميم مياه الشرب، وخلف ذلك وفيات.
يتجاوز عدد سكان مدينة الهلالية السودانية المحاصرة 80 ألف نسمة
تقع مدينة الهلالية ذات الطابع الصوفي بولاية الجزيرة، وتبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 120 كيلومتراً، ويزيد عدد سكانها عن 80 ألف نسمة، وهم ينتمون إلى عدد من القبائل والأعراق، لكن التعايش السلمي سمة غالبة منذ مئات السنين، والزراعة والتجارة والحرف اليدوية هي المهن الأكثر انتشاراً، بينما يفضل كثيرون الهجرة، خصوصاً إلى دول الخليج العربي، خصوصاً مع تدهور الأوضاع المعيشية وتراجع فرص العمل في البلاد.
تقدر مصادر محلية أن 50 شخصاً لقوا حتفهم في مدينة الهلالية خلال الفترة الأخيرة، ومن بين الضحايا نساء وأطفال، لكن تلك الأرقام غير دقيقة مع تزايد أعداد الضحايا يومياً، وتؤكد المصادر أن مليشيا الدعم السريع تجبر أي مواطن يريد الخروج من المدينة على دفع مبالغ مالية تقدر بما بين مليون إلى 10 ملايين جنيه سوداني (الدولار يساوي 600 جنيه تقريباً).
يقول أحمد عراقي، من المكتب الإعلامي لـ”مؤتمر الجزيرة”، لـ”العربي الجديد”، إن “الوضع كارثي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فالمدينة تحولت إلى سجن إجباري تحاصره قوات الدعم السريع، والتي تحتجز الكثير من الأشخاص، وتطالب ذويهم بالفدية ضمن ممارسات وانتهاكات عديدة، وإذا وافقت المليشيا على خروج أي أسرة، فإن عليها دفع ملايين الجنيهات، مع إلزامهم بالخروج في اتجاه واحد هو مدينة أبو عشر، وهي أيضاً واقعة تحت سيطرة الدعم السريع”.
يضيف عراقي: “وصل عدد من النازحين إلى أبو عشر عبر المراكب، وكان غالبيتهم يعانون هزالاً شديداً، أو حالات هبوط حاد لأنهم لم يأكلوا لعدة أيام، وقد رفضت المليشيا استقبال نازحين جدد في أبو عشر، والمعلومات التي وصلتنا تؤكد وجود نقص حاد في الأكفان في أبو عشر وفي الهلالية، والبعض دفنوا جثامين ذويهم على شاطئ النيل الأزرق من دون القيام بالطقوس الدينية المعروفة”.
من جهتها، اتهمت شبكة أطباء السودان، قوات الدعم السريع بنهب مستشفى الهلالية وعدد من صيدليات المدينة، ومنع الكوادر الطبية من إسعاف المصابين، وتهديدهم بالقتل في حال لم يستجيبوا لأوامر المقاتلين المسلحين، في ظل فرض حصار كامل على المنطقة. وأدانت الشبكة تلك الممارسات، واعتبرتها “انتهاكات صريحة بحق المدنيين”، وطالبت المنظمات الأممية بفتح جسر إنساني لإنقاذ المدنيين وإجلائهم.
وتنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الكثير من إعلانات النعي التي ينشرها أشخاص من سكان المدينة لأفراد من أسرهم ماتوا بالرصاص أو الأمراض. ومن ذلك ما نشرته هنادي المشرف، والتي قالت في منشور لها إنها فقدت أكثر من 50 شخصاً من أقاربها، وإن كثيرين ممن حاولت التواصل معهم أو الحديث إليهم بعد فقدانهم لأفراد من أسرهم كانوا يعانون اليأس أو الانهيار النفسي، ويرفضون الحديث لأن ذلك لن يعيد إليهم ذويهم، كما أنه لا أحد يسمع شكواهم، ولا تهتم وسائل الإعلام بالكارثة التي يعيشونها.
غادرت السودانية هالة النور مدينة الهلالية خلال الأيام الأولى من الحصار، وتقول لـ”العربي الجديد”، إنها فقدت نحو عشرة من أقاربها، ولصعوبة الاتصالات لا تعرف كيف يعيش البقية في ظل الحصار والجوع والمرض. وتبين أن “هناك أسراً محاصرة في ثلاثة مساجد لجؤوا إليها بعد نهب مليشيا الدعم السريع منازلهم خشية أن يتعرضوا للأذى، ومتوسط الوفيات اليومي يقدر بما بين 10 إلى 15 وفاة، وتتعدد حالات التسمم مجهولة المصدر، والتي لا يتمكن أحد من تحديد أسبابها لعدم وجود معامل طبية، ويرجح البعض أن يكون سبب الوفيات هو انتشار مرض الكوليرا”.
وتشير النور إلى أن “المدينة المحاصرة لا يتوفر فيها أدنى مقومات الرعاية الصحية، فلا أدوية ولا كوادر صحية، باستثناء بضعة أطباء تطوعوا للعمل في ظل هذه الظروف القاسية، ولا أمل في وصول المنظمات الدولية مثل الهلال الأحمر أو الصليب الأحمر أو منظمة الصحة العالمية. يرفض الدعم السريع خروج المواطنين، لذا يلجأ بعضهم إلى التسلل ليلاً إلى القرى القريبة، ثم التوجه إلى ولايات أخرى، وسمحت المليشيا للبعض بالمغادرة مقابل مبالغ طائلة لا يستطيع كثيرون دفعها، في حين يرفض البعض المغادرة لوجود مسنين ومرضى ضمن أسرته، بمن فيهم مرضى الفشل الكلوي، وإحدى قريباتي التي كان عمرها 24 سنة، لقيت حتفها لأنها كانت مصابة بالسكري، ولم تتمكن من الوصول إلى العلاج”.
بدوره، يؤكد مسؤول الدائرة القانونية في “مؤتمر الجزيرة”، عادل النافع، لـ”العربي الجديد”، أن “الانتهاكات تشمل القتل المتعمد، والتسميم الجماعي، كما يتعرض مدنيون عُزّل لإطلاق النار المباشر في عمليات إعدام ميداني جماعي تنم عن سياسة ممنهجة للإهلاك، وتشمل الانتهاكات النهب الممنهج للأسواق والمحال التجارية والمحاصيل الزراعية التي تعد المصدر الأساسي للغذاء، واستخدام سلاح التجويع، وإتلاف شبكات المياه والكهرباء، وتعطيل مطاحن الغلال، إضافة إلى نهب الثروة الحيوانية، فضلاً عن ارتكاب أفراد المليشيا لجرائم عنف جنسي، واستهدافهم النساء والفتيات. كل تلك الوقائع يمكن أن تصنف جرائمَ ضد الإنسانية، وجرائمَ حرب، ويمكن أن ترتقي إلى مستوى جرائم الإبادة وفق القانون الدولي”.
العربي الجديد