جمرات تحت الرماد السوداني

جمرات تحت الرماد السوداني

_ عمر العمر _

رغم تباين رؤى السودانيين ومواقفهم تجاه الحرب الراهنة في بلدهم، إلا أنهم يتقاسمون قلقاً عميقاً خشية انحدار الوطن صوب الانهيار. بعضٌ يجنح به الشعور إلى حد بلوغ حافة الانهيار، بل ربما بلغ اليأس الوصول إلى عُمق الخطر بالفعل. تلك المشاعر وليدة الإحباط الناجم عن ركام أفعال شريحةٍ محدودة استأثرت بمفاتيح دولاب الدولة وبالامتيازات، فحتى الهبّات الشعبية العارمة أصبحت في جنح نفوذها مغامرة أشبه بالفقاعات، إن لم تصنع تلك الشريحة منها (وليس مقابلها) ثورة مضادّة. من المفارقات أن الرياح على المدار الدولي باتت تهبّ ضد التغيير ولصالح الردّة والممانعة. بغض النظر عن موعد بدء اختطاف هذه الفئة امتيازات الاحتكار، فالثابت هيمنتها تماماً على مفاصل السلطة والثروة إبّان سني حكم نظام عمر البشير، حتى أمست تَهَبُ لمن تشاء ما تريد كيفما تشتهي. هذه الأنانية المفرطة هي محنة السودانيين. مع ذلك، لم تعد هذه الحرب تهدّد فقط هذا الاحتكار الظالم، بل ربما كذلك التبشير ببناء معمار سياسي جديد.
*****
تحت هذه الهيمنة الأوليغارشية تلبّست روح القطيع قطاعاً عريضاً من المجتمع، حتى غدت مهمّة التبشير بإحداث تحوّلٍ ديمقراطي إيجابي عسيرةً على أي فئة مؤمنة بحتمية التغيير. ثالثة الأثافي في الأزمة السودانية حالة الإرتباك الفكري والتشظي التنظيمي وسط القوى المتصدية لقيادة مهمّة التغيير، فهي عاجزة عن بلورة إطار فكري أو إجماع على آليات في شأن إحداث ذلك التحوّل. هذا القصور الفاضح أضاف لأهل السلطة والامتيازات فرصة تعزيز مكانتهم أمام القطيع، فقط بإثارة الذعر من أخطار ماحقة حال الانجراف مع تيار التغيير المضطرب المرتبك العاجز. هكذا، أمكن عبر ماكينة الإعلام المُسلّطة التخويف من هدم البيت برمّته من دون وجود أي بديل. لذلك أمكن بنجاح تسويق ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن.
*****
هكذا ساهمت شريحة قيادة حركة التغيير في تعزيز هيمنة الأوليغارشية ثم انتصارها من دون اضطرارها لتقديم وعود بإحداث تطويرٍ على المشروع الكسيح، التنازل عن بعض الامتيازات أو إتاحة هامشٍ في السلطة للمشاركة والتطهرِ من الفساد الماحق أو تحقيق قدرٍ من العدالة. على التقيض من ذلك، هي تُصعّد نبرة التهديد وقبضة الوعيد. في ظل الاهتراء الراهن على صعيد الوطن بأسره يصبح الحديث عن وجود أي قدر من ممارسة السياسة ضرباً من الهذيان. ما يحدُث ليس غير صنوفٍ من الارتجال، الانفعال والطيش، بل ليس مبالغةً القولُ فيه مسٌ من الخبل أو ربما الجنون، فالأزمة لا تتمثل فقط في ما يتعرّض له الوطن من تدمير عشوائي وما يكابد الشعب من تهجير وتشريد قسري. بل في فداحة التوحش داخل هذا العنف، فعن أي نظامٍ حاكمٍ يمكن الجدل، وعن أي سياسة أو ساسة يوجّه العقل. بعد أن يفلح صنعة الرأي العام (إن وجدوا أو وُجد) في تشخيص الأزمة وتعريف دوافع الحرب وغاياتها، يمكن وقتئذٍ فقط الكلام عن سياسة وقيادة مدنية وعسكرية.
*****
روح القطيع المهيمنة تترقب معجزة تدفعها خارج نفقٍ سيقت إليه مستسلمة. في سياق العجز المتكافئ بين حملة السلاح لا يبدو ثمة ضوء داخل العتمة أو نهاية قريبة أو انتصار حاسم لأيٍّ من الفئات الضالة. حينما يرفع أبناء وطن السلاح في وجه بعضهم بعضاً يصعب إغلاق الحدود أمام القوى الخارجية في عالمٍ تتربّص طموحات الدول وأطماعها بكل مساحةٍ تتيح لها الاستثمار في الأزمات القطرية. لذلك لا يجدي الجأر بالشكاية من تدخل قوى أجنبية طالما فتحنا أسوار الوطن بأيدينا وغفلتنا أمام الآخرين، فما من دولة في عالم اليوم خالية من أزمات أو محصنة ضدها. بعضٌ من تلك الأزمات سياسي، وأكثرها اقتصادي، وقليلٌ منها بفعل أطماعٍ في وجه أطماع مضادّة. تراكم الأزمات على كاهل الدول أفضى إلى تكسير الحدود وتدفق موجات عابرة في صيغة دفقات من فائض رؤوس أموال، أرتال عسكرية، تيارات ثقافية وأمواج بشرية، فالدول مطالبة بتحصين حدودها ضد كل أشكال التدخل عابر الحدود. يحتاج السودان أكثر من غيره للحصانة، استناداً إلى ثرواته أولاً وهشاشته تالياً.
*****
إذا ظل من ثورة ديسمبر أثرٌ باقٍ فهو تجريدها انقلاب أكتوبر (2021) وتفريخاته من المشروعية. من ثم لن يكتسب أي تشكيل يخرج من تحت رماد هذه الحرب أوكسجين الحياة ومشروعية البقاء من قبل معسكر الثوار. هذا معسكر يتضخم بجموع العائدين من ملاذات النزوح وتزايد أعداد الفقراء، الشباب المعطّلين والمتبطلين. هؤلاء جميعهم لم يعودوا يخشون شيئا أو على شيءٍ. هذه حقيقة لا ينبغي إغفالها أو تجاهلها من قبل كل من يتوهم إعادة تحويل الوطن إلى سجن تحت الأفق من أجل استرداد الاحتكار و الامتيازات أو تورّط في تحويل الوطن إلى مقبرة مفتوحة. من حق أي طرف الرهان على هزيمة الطرف الآخر لكن عليهما الاقتناع بأن ليس في قدرة أيٍّ منهما بلوغ انتصار حاسم وشيك. لذلك يرفعون سقف زمن القتال. ربما على من يتوهم الاستعانة بمليشيا في بناء دولة إعادة قراءة فصول (الكتائب) في الكتاب اللبناني وتجربة (جيش لبنان الجنوبي) في سيرة الكيان الإسرائيلي.
*****

على قدر اتساع مساحة الاقتتال الزمانية في السودان تتجذّر ثقافة العنف فتّتسع الفجوة بين الشعب والسلم الاجتماعي، فضمن هذه الثقافة يُروّج دوماً القول “القوة هي الحق”. تلك معضلة تزيد من الحواجز والألغام على درب الاستقرار، بثّ الأمن، بسط السيادة، شبكات الخدمات، إعادة البناء والتنمية. هذه مهام الساعة التالية، ولكن لا يمكن إنجازها بالرصاص. هي مهامّ عسيرة التنفيذ في مجتمع تعرّض قسراً إلى صدمة قهر جماعية زادت من شروخ سلمه وهويته. لعل أبرز متطلبات النهوض من بين ركام الخراب الكارثي وجود قائد له قدرة الإقناع على نحو يجعل من حكمة فريدريك نيتشه “ما لا يقتلني يزيدني قوة” شعاراً معاشاً على الصعيد الشعبي بأسره. تتطلب الحياة بعد الحرب زعيماً لا يؤمن فقط بمقولة هنري كيسنجر “الشعوب تُحكم بالخبز وليس بالسلاح”، بل يكرّس جهد حكومته لتنفيذها، فهذه إحدى أنجع خطط الحكم الرشيد لقمع أطماع الباحثين عن الامتيازات والاحتكارات.
*****
إذا لم يقتنع المتآمرون على الشعب، بعد هدر الوقت والقدرات في ظل هذه المحرقة المأفونة، أن الحرب مغامرة خاسرة فعليهم إدراك أن إعادة بناء الوطن لن تكون صفقة رابحة أو خاسرة، بل هي مهمة وطنية واجبة، فرض عين ينبغي أداء فروضها جماعة في تواقيتها بطهارة وشفافية.


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.