الفن السوداني يزدهر في أتون المعارك… بالنار والأمل
خرجت إنتاجات جديدة في مجالات المسرح والغناء والأفلام السينمائية، مما دفع سودانيين كثراً إلى التفاؤل في شأن تنشيط الطاقات الفنية وإخراجها إلى العلن كرد فعل إيجابي ومتمرد على الواقع الصعب.
على رغم الحرب التي يعيشها السودان منذ أشهر طويلة، والتي تلقي بظلالها على المشهد الفني والثقافي، فإن عدداً كبيراً من المبدعين أداروا ظهورهم للصراع المستعر وتداعياته من خلال تنظيم أنشطة فنية بحثاً عن شعاع نور في مواجهة الواقع المعتم، ومحاولة لتجاوز الأحزان والحصول على جرعات الأمل بتوقف المعارك وعودة الاستقرار.
وشهدت المسارح في المدن الآمنة حالاً من الازدهار، إضافة إلى مشاركة فرق ومجموعات سودانية في المهرجانات الدولية بتونس ومصر وفرنسا، وخرجت إنتاجات جديدة في مجالات المسرح والغناء والأفلام السينمائية، مما دفع سودانيين كثراً إلى التفاؤل في شأن تنشيط الطاقات الفنية وإخراجها إلى العلن كرد فعل إيجابي ومتمرد على الواقع المرير.
أنشطة وفعاليات
نظم اتحاد الأدباء والفنانين في مدينة بورتسودان شرق البلاد فعاليات عدة، منها عروض مسرحية وليالٍ غنائية وتراث وفولكلور، فضلاً عن فقرات متنوعة مثل الرقصات الشعبية وجناح الفن التشكيلي والصور الفوتوغرافية، إلى جانب الندوات الثقافية وأنشطة متنوعة للنازحين في مراكز الإيواء، كما يستعد عدد من المبدعين لتنظيم مهرجان البحر الأحمر الترفيهي.
وشهدت مدينة القضارف شرق الخرطوم حراكاً فنياً من خلال أمسيات الإبداع الثقافي التي اشتملت على منافسة الأغنيات الوطنية وتكريم الرموز الإبداعية بالمدينة، وكذلك نظمت فرقة “فنون كردفان” بمدينة الأبيض غرب العاصمة عروضاً فنية ومسرحية للشباب ليتذكروا الإرث الثقافي الزاخر للسودان.
في هذا الصدد، يقول عضو فرقة “الأصالة” الغنائية السودانية عبد الرحمن الفاتح، إن “الحراك الفني الذي تشهده بعض المدن الآمنة يسهم في التغلب على قتامة الصورة التي فرضتها الحرب وتداعياتها القاسية، وكسر مشاهد الدمار بأعمال متنوعة تعكس ألوان الإبداع الإنساني المشرق”.
وأضاف “أضحى من النادر أن يتاح للفنون مجالاً لتعبر عن نفسها نتيجة الصراع الدامي الذي تشهده البلاد وإعلاء صوت السلاح على أنغام الأوتار والرقصات، بالتالي فإن تنظيم الفعاليات ينثر الفرح في القلوب الحزينة والشوارع المسكونة بالخوف والقلق”.
وأوضح الفاتح أنه “على رغم قتامة المشهد فإن السودانيين الذين يعشقون الفن منذ الأزل ينتظرون أعمالاً تعبر عما في نفوسهم التواقة إلى الحياة لتسهم بالكلمات واللحن والفرشاة والمسرح في وقف سعير الحرب التي استهلكت من حياتهم كثيراً”.
حضور بالمهرجانات
لم تمنع ظروف الحرب وتوقف مؤسسات الإنتاج والضغوط النفسية الفنانين السودانيين من المشاركة في المهرجانات الدولية، واضطر فريق منطقة صناعة العرض المسرحي السودانية لبيع سيارة من أجل المشاركة في مهرجان “أيام قرطاج المسرحية” بتونس، ويضم الفريق المخرج وليد الألفي والفنانين الهادي الشواف وهدي مأمون وعبد الرحمن الشبلي.
كما شارك السودان في الدورة الـ45 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي ضمن مسابقة “آفاق السينما العربية” بفيلم “مدنية”، الذي يرصد المرحلة ما بين خلع الرئيس السابق عمر البشير والاقتتال بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، كما شهد مهرجان “أسوان” الدولي لأفلام المرأة مشاركة خمسة أفلام سودانية قصيرة، منها “طوبة لهن” للمخرجة رزان محمد، الذي يسلط الضوء على نساء نزحن من معسكر للاجئين عام 2003، عندما اندلعت الحرب في إقليم دارفور، وفيلم “نساء الحرب” للمخرج القدال حسن الذي يتناول قضية النساء في مناطق الصراع بولاية النيل الأزرق جنوب البلاد وتأثير الحروب فيهن وفي ذاكرتهن.
في سياق متصل، ترى الممثلة والمطربة السودانية إيمان يوسف بطلة فيلم “وداعاً جوليا” أن “هذه الفترة هي المناسبة التي يمكن أن يعبر فيها الفنانون عن أنفسهم وعن القضايا المسكوت عنها، فضلاً عن أهمية إنتاج الأعمال”.
وأضافت “الحروب والأزمات تتعبنا نفسياً، لكنها تعطينا درجة من الإصرار على مواصلة أحلامنا وإبراز الأفكار، ولا حل آخر غير أن نستمر في إخراج الأفكار”. مشيرة إلى أن “هذه هي الفترة يفترض أن تخلق فيها الأفكار من جانب الشباب السوداني الذي كان يشعر بالقيود من قبل”.
عروض خارجية
ولإظهار القيم الجمالية والفنية للممالك القديمة في السودان وحضارتها ونشرها إلى أنحاء العالم بأسلوب فني مبتكر، قدم عدد من المسرحيين السودانيين بمتحف “اللوفر” في العاصمة الفرنسية باريس عروضاً للتعريف بأزياء السلطة في عهد المملكة النوبية المسيحية خلال القرنين السادس والـ14 الميلادي.
وصعد العارضون إلى المسرح الواحد بعد الآخر عند شرح شكل وقماش وتصميم ملابس الشخصيات التاريخية، وضم فريق العمل عبد المنعم محجوب ولجين عبدالمنعم وعبد الرازق رحمة ومعتصم سيد أحمد.
على صعيد متصل، اعتبر الناقد الفني هيثم الطيب أن “مشاركة الفنانين السودانيين في المهرجانات الدولية خلال الظروف الحالية تمثل صورة مشرقة للبلاد في زمن الحرب، وهي رسالة تمنحنا الثقة والأمل بأن السودان سيخرج من هذا النفق المظلم، وسيعود إليه ألقه ومكانته التي يستحقها بين الأمم بما يمتلكه من إرث ثقافي متجذر في أعماق التاريخ والحضارات الإنسانية”.
وأضاف أن “بارقة الأمل هنا هي أن هؤلاء الفنانين قدموا أعمالاً من وحي الصراع المسلح بأقل الإمكانات والخامات الفنية المتاحة لتكوّن حضوراً في فعاليات دولية عدة، وتمثل صوتاً لكل السودانيين”.
ولفت الطيب إلى أن “هذه التجارب تعد علامات فارقة في الصمود ورفض الهزيمة وإضفاء طابع الجمال على رغم الدمار وقسوة الظروف وتداعيات الحرب”.
إنتاج سينمائي
في المقابل، و على عكس توجه السينمائيين السودانيين بعد الحرب نحو الإنتاج خارج البلاد يمضي المخرج وصانع الأفلام السوداني محمد فاوي، إلى تأسيس “فاوي فيلمز” في مدينة بورتسودان.
تمكن فاوي من صناعة أفلام وثائقية لعدد من القنوات، موظفاً عدداً من الشباب المبتدئين ليستطيع مواصلة عمله ويتمكن من تأسيس شركة الإنتاج السينمائي الخاصة به.
وفي مركز “بورتي الثقافي” بدأ يؤسس عمله مرة أخرى في بورتسودان، وأقام عدداً من الورش المتخصصة بالفنون في المجتمع، فضلاً عن إنتاج فيلمين قصيرين هما “طنين” و”في الظلام”.
يقول المخرج وصانع الأفلام السوداني، “أنتجنا خلال الورش فيلمين محترفين، أحدهما عن فرقة موسيقية تكونت من تجمع ثلاث فرق بعد الحرب، وصل أعضاؤها نازحين من الخرطوم والأبيض ومدني إلى بورتسودان، والآخر يحكي عن مثقف وموسيقي وأستاذ من جبال النوبة ويقطن ولاية البحر الأحمر يرغب في إعادة لغته الأم إلى الحياة”.
اندبندنت عربية