حرب السودان وتوجهات تحالف روسيا – إيران المثقل بسقوط الأسد
يخطط السودان لاتباع خط مرن في سياسته الخارجية لفترة من الزمن، أملاً في الوصول إلى حل للمشكلات الاقتصادية في القروض التي سيجري تلقيها من الغرب، إذا لم يتدخل أعضاء النظام السابق لإجهاض المحاولة.
فتح تتابع الأحداث والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، حلقة من الشعور بالقلق حول مستقبل الوضع في السودان في ظل الحرب المشتعلة منذ أبريل (نيسان) 2023 بين قوات الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وأثار سقوط الرئيس السوري بشار الأسد الأحد الماضي عدداً من المخاوف لدى قيادات الجيش السوداني، نظراً إلى الوعود المبذولة من روسيا وإيران بعد التقلبات الجديدة التي يشهدها تحالفهما الذي أُسس على عناصر عدة.
وأول العناصر بُنيت على مسوقات تاريخية تغذيها النزعة الإمبراطورية لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والنظام الإيراني، فقد تحالفت إيران الصفوية مع روسيا القيصرية لمواجهة المد العثماني أواخر القرن الـ 16، كما أن البلدين ظلا يعبران عن مظالمهما المشتركة ضد الغرب ورغبتهما في تحدي النظام العالمي الجديد، وهما يعانيان العزلة الدولية والعقوبات الغربية المفروضة عليهما، وسعيهما إلى إيجاد حلفاء دوليين وإقليميين يتشاركون معهما الأهداف والتوجهات، ومحاولات صعودهما من خلال تجمعات مثل تكتل “بريكس” ومنظمة “شنغهاي للتعاون”.
ومع ذلك يحيط بالبلدين انعدام ثقة متبادل يحاولان إخفاءه لاعتبارات تتعلق بمخططاتهما الطموحة في ما يتعلق بعلاقاتهما الثنائية وعلاقاتهما مع دول المنطقة، إذ شهد التعاون بينهما تحسناً على صعد مختلفة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، فقد دعمت إيران روسيا بالطائرات المسيرة، كما نشّطا الاتفاقات التجارية والإستراتيجية بينهما مثل تدشين ممر “النقل الدولي شمال – جنوب” وخط سكة الحديد “رشت – آستارا” وغيرهما من المشاريع.
تأثير مباشر
وبعد أن شهد التحالف بين روسيا وإيران تحولاً إثر سقوط الأسد، أصبح اتخاذ كل منهما موقفاً مختلفاً من قضايا أخرى في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا هو الأرجح، حتى لو انطوى على خطر الإضرار بمصالح بعضهما، وربما يقع التأثير المباشر لضعف تحالفهما في الحيز الزمني لتبعات سقوط الأسد على وضع الحرب في السودان.
وهناك قضية أخرى وهي الانقسام المتزايد بين روسيا ومصالح إيران في البحر الأحمر، مما يؤلب الغرب على كثير من خطواتهما، فمن قبل سمح التدخل العسكري الروسي في سوريا بهيمنة موسكو على الأجندة المرتبطة بالقضية السورية، وأحبط أي آمال لدى الغرب في الإطاحة بالأسد والتأثير في التسوية السياسية التي كانت مرتقبة.
وما يُنظر إليه باعتباره نتيجة لسقوط الأسد يكمن في إمكان تغير الوضع السوداني وفق تطورات الأحداث التالية وتفاعلها، خصوصاً مع محوري روسيا وإيران المؤثرتين في السودان، على اعتبار الخطط الطموحة من الأطراف الثلاثة، وقد سبق هذا الحدث أن أدرك البرهان أخيراً الحاجة الماسة إلى معالجة عزم الجيش على وجود مداخل تسمح بالتفاوض حول وقف إطلاق النار، إذ إن الموقف الرافض للمشاركة في مفاوضات جنيف في أغسطس (آب) الماضي سحب عنه ما بقي من الاهتمام الدولي والإقليمي، على ضعفه، إذ اشترط قائد الجيش انسحاب “الدعم السريع” من المناطق التي سيطرت عليها قبيل المفاوضات وتجميع عناصرها في مقار محددة، وتجريدها من السلاح قبل بدء أي تفاوض.
ونظراً إلى الفجوات القائمة بالفعل في القدرات داخل مؤسسة الجيش من جهة، وتلك الموجودة في علاقتها مع كل من روسيا وإيران من جهة أخرى، في ظل حاجة السودان إلى الإنفاق الدفاعي والموازنات العسكرية في مقابل إقامة قاعدتين عسكريتين لكل من روسيا وإيران في البحر الأحمر، إضافة إلى التعاون الاقتصادي والاستثمار في الموارد الطبيعية مثل الذهب وغيره، فإن المخاوف ستطغى على مستقبل هذا التعاون.
محرك العلاقات
واعتماد السودان على توسيع علاقته مع روسيا وإيران خلال الحرب من خلال دعمه تسليحياً ولوجستياً يعيد للأذهان تحالف الرئيس السابق عمر البشير مع الصين إثر مجافاة الغرب له وتعرض السودان لعقوبات دولية وتصنيفه ضمن الدول الراعية للإرهاب، وصحيح أن بكين ساعدت البشير في الالتفاف على العقوبات الدولية واستخراج النفط وتصديره، ولكنها كانت المستفيد الأكبر إضافة إلى المؤسسات التابعة للنظام، لأن كل الاستثمارات كانت قائمة على إشباع حاجة الصين للتنمية والحفاظ على النظام السوداني الحاكم، فكانت النتيجة تراكم الديون على السودان.
وفي ظروف الحرب الحالية تحتاج مؤسسة الجيش إلى تسيير دولاب الدولة بعون سريع غير خاضع لأي شروط، سوى المصلحة المتبادلة ولو على حساب اعتبارات أخلاقية تتعلق بحقوق الإنسان والحريات وغيرها، فالخطأ المكرر هو التعويل على أنظمة قابضة والإحساس بالأمان نحو تحالفاتها، وهي في حقيقتها قائمة على قانون المصلحة.
وقد أضر الدعم الإيراني للجيش السوداني بالطائرات المسيرة بمكانته لدى الرأي العام العربي، وأفقده أي تعاون غربي محتمل، إذ بات ينظر إليه كمشروع وكيل جديد يخلق بيئة مزعزعة أمنياً داخل المنطقة وأفريقيا، ومع ذلك فقد خفتت هذه النبرة المعارضة للتعاون العسكري مع إيران أملاً في إقناع الجيش بالمفاوضات حول وقف إطلاق النار، ولكن ذلك لم يحرك ساكناً لديه، إذ لم يستجب للانتقادات في شأن ما يجره هذا التعاون.
أما روسيا فقد بدأت قبل الحرب بدعم “الدعم السريع” عبر تعاونها مع قوات “فاغنر” المقربة من الكرملين، ثم تحولت إلى دعم الجيش إثر تنشيط “اتفاق التعاون” الموقع عام 2017 مع البشير، والقاضي بإقامة قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر، كما أن هناك تركيزاً على أن يجد التعاون الاقتصادي بين موسكو والخرطوم طريقه نحو التحقق، ولكن من غير المرجح أن يصل إلى المستويات التي تأملها روسيا ويمكن أن تحققها في دول أفريقية أخرى.
وفي حين تشكل الحوافز الاقتصادية والإستراتيجية محركاً مهماً لعلاقات روسيا في الشرق الأوسط وأفريقيا، فإن موسكو ستواصل سعيها إلى بناء جسور مع المنطقتين بوجود السودان ضمن هذه المنظومة أو من دونه.
تدخل دبلوماسي
في ضوء ضعف التحالف الروسي – الإيراني تعتمد الديناميات الأخيرة على كيفية إدراك السودان التحولات في التحالفات الإقليمية والدولية وأولوياته الإستراتيجية الخاصة، ولذلك فربما يدرك الجيش أن تدخلاته في السياسة الخارجية ستكون مضرة وخصوصاً في الفترة الحالية، ويمكن أن يتراجع لمصلحة الدبلوماسية إما لفتح فرص لشراكات جديدة أو استمرار تعاونه مع روسيا وإيران بناء على أسس جديدة تعمل على تحييد موقفهما من تكثيف الدعم العسكري.
ويدعم هذا الاتجاه أنه في خضم هذه الظروف جرى لقاء بين وزير الخارجية السوداني علي يوسف وسفير روسيا لدى السودان أندريه تشيرنوفول، والسفير الإيراني لدى السودان حسن شاه حسيني كل على حده.
وكان السفير الإيراني قدّم أوراق اعتماده لرئيس مجلس السيادة الفريق البرهان في يوليو (تموز) الماضي لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاعها منذ عام 2016، وكان تركيز لقاء السفيرين مع وزير الخارجية على شكر روسيا على موقفها الداعم للسودان واستخدامها لحق النقض (فيتو) ضد مشروع قرار مجلس الأمن الأخير، والإطراء على الدور الإيراني، إضافة إلى مشاركة رجال أعمال روس وإيرانيين في ملتقى الأعمال السوداني في بورتسودان.
بروز التنافس
وحتى وقت قريب بدت المشاريع الروسية والإيرانية المزمع تنفيذها في السودان غير متصادمة، وخدم هذه الرؤية التآلف بين الدولتين ووحدة أهدافهما في منطقة البحر الأحمر.
وبعد التطورات الأخيرة فإنه من المرجح أن تؤدي حاجة الجيش إلى تلافي فقدان الدعم الروسي والإيراني، الذي كان يعول عليه كثيراً، إلى مرحلة من التنسيق إن لم يكن عسكرياً مع “الدعم السريع”، فربما يكون مع قوى مدنية مُختارة نظراً إلى عداء المؤسسة العسكرية الفائق للقوى السياسية التي تتصدر المشهد حالياً من خلال تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم).
ومن منظور طويل الأمد فليس من المرجح أن تتخلى كلتا الدولتين عن مصالحهما الإستراتيجية الأساس في السودان، ولا سيما وجودهما في البحر الأحمر، ولكن في المدى القريب ربما تكون هناك مرحلة فك الارتباط بينهما مع انقسام موقفهما تجاه الحرب في السودان، وقد يؤدي رد الفعل المحتمل في وقت لاحق بعد الحرب، إن استمر ضعف تحالفهما أو تضعضع، إلى بروز تنافس بينهما على السودان ضمن التنافس الواسع على أفريقيا.
وعلى هذا النحو يبدو أن المعادلة السودانية الناشئة في أعقاب ضعف التحالف بين روسيا وإيران يمكن أن تساعد كل منهما في تعزيز نفوذهما السياسي والعسكري في السودان بطريقة مختلفة، إذ إن العلاقة تعتمد إلى حد كبير على ما تريده روسيا وإيران وليس على ما يريده السودان، ولذلك فإن احتمال تحققه في ظل نظام عسكري أكثر منه في ظل نظام ديمقراطي، ولذلك فستستمر الدولتان في رفض احتمال ظهور نظام جديد خشية أن يكون موالياً للغرب.
سيناريوهات مفتوحة
السيناريوهات أيضاً مفتوحة على أن يحاول الغرب استقطاب الجيش السوداني، وتستغل القوات المسلحة الفرصة لاستثمار العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للحصول على المساعدات المعلقة وتسوية الديون، ويمكنه الضغط باتجاه مقترح التعاون لضمان استقرار البحر الأحمر والقرن الأفريقي والحد من النفوذ الإيراني، وفي حال أملى الغرب شروطه من أجل التحول الديمقراطي في السودان فإنه في هذه الحال سيضعف الوجود الروسي والإيراني في الفضاء السياسي السوداني، وقد تخطط الخرطوم لاتباع خط مرن في سياستها الخارجية لفترة من الزمن، أملاً في الوصول إلى حل للمشكلات الاقتصادية عبر القروض التي سيجري تلقيها من الغرب، إذا لم يتدخل أعضاء النظام السابق لإجهاض هذه المحاولة بسبب استمرار رفضهم إقليمياً ودولياً.
ووفقاً لما هو معروف عن شخصية بوتين فإن زعامته السياسية تبرز بوضوح كأحد أصعب أنواع الزعامات، فهو يتقن ديناميات ما يحتاجه وما هو مطلوب منه من أجل تحقيق رؤيته لروسيا، وفي الوقت ذاته هو مهيمن للغاية وقادر على إظهار التضامن مع حلفائه وقت الحاجة، مثلما ظهر مع الجيش السوداني في الـ “فيتو” الأخير بما يعزز علاقات بلاده السياسية والاقتصادية، خصوصاً في ما يتعلق بمبيعات الأسلحة والتجارة والوصول إلى الموارد.
وتوصف شخصية بوتين بأنها أحد محاور تحديد أسلوب قيادته وأنه توسعي طموح للغاية، كما يُظهر سمات الهيمنة والسيطرة وأنه ممتلئ بالثقة حدّ أنه لن يبذل جهداً في مراوغة الجيش السوداني من أجل استمرار العلاقات، وأما بالنسبة إلى إيران فإن علاقتها مع السودان قد تتحول بكل بساطة إلى عداء، خصوصاً إذا أدى التوافق مع الغرب إلى تطبيع علاقات مع إسرائيل.
اندبندنت عربية