تحقيقٌ يكشف تفاصيل الوضع الراهن للزراعة في السودان
كشفت وزارة الزراعة الاتحادية، عن ارتفاع المساحات المزروعة خلال الموسم الصيفي بالبلاد إلى 40 مليون فدان، منها 17 مليون فدان ذرة، وأكدت أنها فاقت المساحات المستهدفه في بعض الولايات، حيث النسبة المزروعة بولاية القضارف 122%، واعتبرته رداً على التقارير الدولية التي تتحدث عن مجاعة في البلاد.
وكان السودان علق عضويته في نظام المرصد العالمي للجوع قبيل الكشف عن تقرير أعدّه المرصد، أكد من خلاله اتساع رقعة المجاعة في البلاد، حيث شملت خمس مناطق جديدة في دارفور وجنوب كردفان، كما رصد 17 منطقة في جميع أنحاء السودان، قال إنها معرضة لخطر المجاعة، بينها مناطق في الجزيرة وود مدني والخرطوم.
تجاوزٌ واضحٌ
واكد وزير الزراعة الاتحادي أبو بكر عمر البشرى، تجاوز لجنة المجاعة لوزارته وإعدادها لتقرير مغاير لما تم، بالتنسيق مع الفريق الفني للحكومة في البلاد. وقال إنّ التقرير المغاير فيه تضخيمٌ للأرقام بهدف إقناع المانحين بالتمويل، مشدداً: “ولكن ليس على حساب سيادة دولتنا وزعزعة الأمن هنا”.
وأكد البشرى أنّ المشاركة في لجنة المجاعة طوعية، ونفى تماماً أن يؤثر الانسحاب على تمويل المساعدات الإنسانية، باعتبار أنّ السودان عضوٌ في منظمة الأمم المتحدة. وأضاف: “هي ملزمة بتقديم المساعدة والدعم”.
المزارعون يستغيثون
مع اقتراب الحرب من إكمال عامها الثاني، يرى مزارعون أنهم من أكثر ضحاياها تضرُّراً، حيث هُجِّروا قسراً من أراضيهم، وعجز آخرون من عملية الزراعة بسبب ارتفاع مدخلات الإنتاج والتي فاقت قدرتهم، بينما يواجه مزارعو القضارف تحديات تهدد الموسم بعد نجاح الولاية في زراعة عشرة ملايين فدان، أسهمت في تأخير الحصاد وتمثلت في نقص العمالة، لا سيما الإثيوبية التي يتم الاعتماد عليها بنسبة 80%، بجانب ارتفاع تكاليف الإنتاج وتضاعف مدخلات الزراعة إلى خمسة أضعاف بسبب عدم استقرار سعر الصرف.
ويقول المزارع محمد الدخري من سكان قرى الجزيرة ونبرة اليأس والحسرة في صوته: “فقدت كل مدخراتي وما أملك، وشاهدت بعيني تعبي وشقاي تنهبه مليشيات الدعم السريع التي استباحت قريتنا وخرّبت الزرع وسرقت الآليات ولم تترك لنا سوى أرضاً بوراً، اضطرنا لهجرها لمناطق آمنة نعيش فيها على الإعانات”.
ولم يكن حال محسن النعمة بأفضل من غيره من المزارعين، فقد قرر بعد أن نزح إلى مسقط رأسه في ولاية الجزيرة عقب اندلاع الحرب في الخرطوم، العمل في الزراعة التي تربى وترعرع عليها.
يقول النعمة : “زرعت العروة الصيفية لموسم 2023 وكانت زراعة صفرية دون أي تحضير أو سماد وعبر الحراث القديم باعتبارها خطوة لا بد منها. ولكن سرعان ما وصلت الحرب إلى ولاية الجزيرة وازداد الأمر سوءاً من كافة النواحي بهجوم مليشيات الدعم السريع على قرانا في الجزيرة والمناقل وأفقدونا الأمن والاطمئنان على سلامة أطفالنا، فلم نحصد ما زرعناه وقررنا المغادرة، وتشتّت بنا السبل”.
أما وليد حسن مزارع القضارف فيقول : “كغيري من المزارعين تمكنت من الزراعة برغم العقبات الكبيرة التي واجهتني، المتمثلة في ارتفاع تكاليف المدخلات، إلا أننا كمزارعين في القضارف لازلنا نواجه مشاكل في التسويق، بجانب غياب الدولة الواضح والرؤية الحكومية، لا سيما فيما يتصل بعمليات التصدير”.
وأوضح: “دور الحكومة في استمرار العملية الزراعية واستقرار الصادر والمحافظة على أسواقها غائبٌ تماماً”.
ويسهم القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني بنسبة 32.7% من الناتج المحلي الذي بلغ 34.3 مليار دولار بنهاية 2021 وفق تقديرات البنك الدولي وقتها.
وضعٌ كارثيٌّ
نائب رئيس تجمع مزارعي السودان للقطاع المطري غريق كمبال، يقول إن الحرب ضربت الزراعة في مقتل لتضرر أكبر المشاريع الزراعية وتضرر الصادر.
وأكد غريق في حديث ان جزءا كبيرا من ولاية النيل الأبيض خرج عن الزراعة المطرية والمروية، بجانب خروج ولاية سنار بالكامل وان بدأت في العودة بعد تحريرها، إضافةً لخروج أجزاء كبيرة من ولاية النيل الأزرق وتأثر الجزء الغربي لولاية القضارف، بجانب تأثر أجزاء واسعة من ولايات دارفور وكردفان، وأوضح أن كلها ولايات زراعية تسهم بشكل كبير في الاستقرار الزراعي والناتج المحلي والقومي، وذكر أنّ التحدي الذي يواجه القطاع الزراعي توفير التمويل اللازم وتوفير المدخلات والمعينات، ورأى ان ذلك من شأنه تغطية العجز الذي أحدثه خروج عدد من المناطق الزراعية، وشدد على أن الزراعة قاطرة الاقتصاد ومنها يتعافى الكل.
تراجع الصمغ العربي
ومع تصاعُـد حِدّة الحرب في البلاد، أخذ الصمغ العربي نصيبه، فقد تراجعت إنتاجيته لأقل من النصف بحسب تُجار منتجين.
وينتج السودان نحو 80% من الإجمالي العالمي من الصمغ العربي.
وفي تصريح سابق، توقع رئيس شُعبة مصدري الصمغ العربي أحمد العنان، تراجع إنتاجية الصمغ العربي بين 40 إلى 60 ألف طن خلال العام الحالي، بينما تراجعت انتاجيته العام الفائت إلى 60%.
وأكد منتج الصمغ العربي أحمد عبد العال أنّ هناك عدة تحديات تواجه القطاع، بينها الإحجام عن الترحيل بسبب المشاكل الأمنية، بجانب غياب الأمن في أغلب مناطق حزام الصمغ العربي، إضافةً لغياب التمويل.
الاتّحاد يُناشد
وأكد تحالف مزارعي الجزيرة َوالمناقل في تقرير حديث تراجع المساحات الزراعية بالجزيرة والمناقل، وأشار إلى الصعوبات التي أفرزتها الحرب على قطاع الزراعة هناك بما فيها الزراعة الصفرية التي تتم دون تحضير أو سماد أو مبيدات، وقالت إنّ مساحتها المزروعة قد لا تصل إلى 5% في أقسام الجزيرة العشرة، بينما تزيد المساحة في أقسام المناقل لتصل إلى 22% وفقاً لإحصائيات الإدارة الزراعية، وناشد الاتحاد المزارعين بمسارح العمليات بولاية الجزيرة للاتجاه نحو الزراعة وتحدي الصعوبات لأهمية الخطوة واعتماد المزارعين عليها في تأمين حياتهم.
وعملياً، تراجع تمويل البنك الزراعي للنشاط الزراعي في السودان لنحو 60% عن السنوات السابقة وفق تقرير صادر عن البنك نفسه.
صعوباتٌ وتحدياتٌ
ورصد خبراء اقتصاد، جملة من الآثار السلبية جراء تصاعد واستمرار الحرب على القطاع الزراعي، بينها تدمير البنية التحتية وتراجع الأيدي العاملة، بجانب تفاقم الفقر.
ويرى المحلل الاقتصادي كمال كرار أنّ القطاع الزراعي الأكثر تضرراً بالحرب، وذلك لتحول مساحات واسعة منه إلى مسارح عمليات حربية، بجانب اضطرار معظم المزارعين للنزوح قسراً وهجر الزراعة ووجود آخرين رهن الاحجتجار، وأشار لتأثير ذلك على تقلص الإنتاج الزراعي، لا سيما بولاية الجزيرة وبعض المناطق في كردفان ودارفور والنيل الأبيض. وأضاف “حتى المناطق الآمنة كولاية القضارف تقلّصت المساحات المزروعة بها بسبب مخاوف تمدُّد الحرب وارتفاع تكلفة الزراعة نفسها”.
وعدّد كرار في حديث عن أسباب انهيار القطاع الزراعي الناتجة عن الحرب، بينها توقف التمويل المصرفي وعجز المزارعين عن السداد والحصول على تمويل جديد نتيجة لغياب سياسة التمويل من قِبل الحكومة، إضافةً لمشكلات القطاع المصرفي وتوقف كثير من البنوك وفروعها عن تقديم الخدمات التمويلية للمزارعين، بجانب ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج من أسمدة ومبيدات ووقود وتقاوي، إضافةً لنقص كمية المدخلات بمناطق العمليات العسكرية في الخرطوم والجزيرة ودارفور والنيل الأزرق.
ومن جانبه، عضّد الخبير الاقتصادي محمد الناير، موقف الجهات المختصة في البلاد الانسحاب من النظام العالمي لمرصد الجوع، ووصف الخطوة بالسليمة، وقال الناير : ظلت المنظمات الأممية والدولية تصدر تقارير غير محايدة وغير واقعية عن السودان، كما أنها لا تتوافق مع المعلومات الصادرة من قبل الدولة، ومعلومٌ أنّ كل المنظمات الأممية حينما تصدر تقاريرها تتوافق مع التقارير الخاصة بالدول والجهات المعنية داخل الدولة.
واستبعد الناير اقتراب البلاد من شبح المجاعة، وأكد أن الخطوة مستبعدة تماماً بالنظر للإمكانات والموارد التي يتمتع بها السودان، وأوضح أن العجز في القطاع الزراعي الذي أحدثه خروج مشروع الجزيرة عن دائرة الإنتاج والمناطق الأخرى بسبب الحرب يمكن للولايات الآمنة تغطيتها، وتوقّع أن تواجه البلاد بارتفاع أسعار الغذاء وصعوبة الحصول عليه. واستدرك: “لكن لن يعاني من جوع خاصة وان الموانىء البحرية تعمل بكفاءه عالية استيراداً وتصديراً، بجانب أنّ الطرق مع مصر تعمل بكفاءةٍ عاليةٍ استيرادا وتصديرا؛ وبالتالي يمكن تغطية العجز في السلع عبر الاستيراد”.
تفاؤلٌ حذرٌ
وبدت وزارة الزراعة الاتحادية أكثر تفاؤلاً بتغطية العجز الناتج عن خروج عدد من المناطق السودانية عن الزراعة بسبب الحرب عبر زيادة الكميات المزروعة بالولايات الآمنة. وأكدت المدير العام للإنتاج بوزارة الزراعة الاتحادية فاطمة يوسف، زراعة مساحات واسعة بالولايات الآمنة فاقت المُقترح من قبل الوزارة، وأشارت إلى عدة عوامل ساعدت في ذلك، بينها كميات الأمطار التي فاقت المعدل، بجانب الدعم المحسوس لمنظمة الغذاء العالمي “الفاو” ومنظمات المجتمع المدني وديوان الزكاة.
ونفت فاطمة، وجود مؤشرات لمجاعة في السودان. وقالت : “مشكلتنا في توصيل الغذاء لبعض المناطق أكثر من أنها مسألة إنتاج زراعي.. الآن جارٍ المسح السنوي لبعثة تقييم الإنتاج وإمدادات الغذاء للموسم الزراعي 2024 – 2025، وهناك مؤشراتٌ إيجابيةٌ كبيرةٌ بدأت تظهر على السطح، حيث بشّرت التقارير الخاصة بولاية جنوب درارفور بزراعة نحو ستة ملايين فدان بالمحاصيل المختلفة”، وأشارت لإكمال حصاد نحو خمسة ملايين فدان من الذرة والدخن والفول السوداني والسمسم. وأضافت: “هذا المسح لم يشمل بعض المحليات بسبب الوضع الأمني”، وحددت فاطمة أهم التحديات التي تواجه القطاع الزراعي أثناء الحرب المتمثلة في توصيل المدخلات الزراعية للمزارعين بالتوقيت المناسب، بجانب خروج مؤسسات التمويل في القطاعين الخاص والعام، فضلاً عن مشكلة الترحيل والنزوح وهجر الزراعة، وعزوف المزارعين بسبب تجفيف وكسر قنوات الري، وأخيراً المخاطر الأمنية والتعدي المباشر على الزراعة والمزارعين والمواطنين والعمال.
ويشير تقريرٌ لمنظمة “الفاو” لانخفاض مساحات زراعة السمسم والفول السوداني وعدد من المحاصيل الأخرى خلال العام 2023 بواقع 24% و27% و44% على التوالي، مُقارنةً بالموسم الصيفي 2022.
وذكر تقرير “الفاو” الصادر في سبتمبر من العام الماضي، ارتفاع تكاليف العمل في بعض المناطق، بسبب نقص الأيدي العاملة كما الحال في جنوب كردفان والنيل الأزرق، بجانب انخفاض الأجور ببعض الولايات في ظل توفر الأيدي العاملة كما في ولايتي نهر النيل والشمالية.
صحيفة السوداني