ود مدني بيد الجيش السوداني: الحرب أمام منعطف حاسم

من المتوقع أن يكون للإنجاز العسكري الذي حقّقه الجيش السوداني باستعادة مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط البلاد، وهو ما أعلنه أول من أمس السبت، في أكبر إنجاز له منذ اندلاع الحرب بينه وبين قوات الدعم السريع في إبريل/نيسان 2023، تداعيات كبيرة على مستوى الصراع المتواصل منذ نحو 18 شهراً، إذ يتوقع مراقبون أن يؤدي ذلك إلى حدوث انهيار لقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم بعد قطع خطوط الإمداد عنها، ما سيشكّل انقلاباً في معطيات الحرب، وقد يؤدي إلى كسر “قوات الدعم” وقلب الموازين العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، فإن لمكانة ود مدني الاستراتيجية أهمية اقتصادية ومالية كبرى لمن يسيطر عليها وعلى البلاد بشكل عام، بما يضع الصراع السوداني أمام منعطف قد يكون حاسماً.
من قلب السودان النابض إلى مدينة أشباح
تحظى مدينة ود مدني بمكانة استراتيجية ورمزية تاريخية، فقد كانت في فترة الحكم التركي عاصمة للسودان قبل أن تنتقل العاصمة إلى الخرطوم في عام 1924. وتقع المدينة وسط السودان، على بعد 190 كيلومتراً من الخرطوم، وهي عاصمة لولاية الجزيرة، وقبلها عاصمة لكل الإقليم الأوسط بولاياته الأربع، وهي ثاني أكبر المدن السودانية. وتعد ولاية الجزيرة واحدة من أغنى الولايات في السودان، وفيها يتمدد بملايين الأفدنة مشروع الجزيرة الزراعي، أكبر المشاريع الزراعية في أفريقيا. كما أن لمدينة ود مدني موقعاً يربطها بكل ولايات السودان، خصوصاً كردفان ودارفور والنيل الأبيض والنيل الأزرق والقضارف وكسلا والبحر الأحمر وغيرها، والمدينة مقر الفرقة الأولى التابعة للجيش السوداني وهي واحدة من أكبر الفرق العسكرية.
أمين مجذوب: استراتيجية الجيش كانت صحيحة وذلك بالبدء بمدينة ود مدني وليس العاصمة الخرطوم
بعد بداية الحرب في 15 إبريل 2023، استضافت مدينة ود مدني قبل السيطرة عليها من قبل “الدعم السريع” نحو 500 ألف من نازحي الخرطوم، كما انتقلت إليها أعداد كبيرة من الأعمال الصناعية والتجارية والخدمات الصحية. وشكّل انتقال الحرب إلى ود مدني في ديسمبر/كانون الأول 2023، ضربة موجعة في مختلف المجالات، إذ نزح منها سكّانها، وعاشت لأشهر طويلة كمدينة أشباح. زادت تعقيدات الوضع في ود مدني وولاية الجزيرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حينما أعلن القائد في قوات الدعم السريع أبو عاقلة كيكل انسلاخه عن “الدعم”، والانضمام إلى القتال بجانب الجيش، فجاء رد فعل “الدعم السريع” عنيفاً عبر حملة انتقامية واسعة ضد مدن وقرى شرق الجزيرة، أدّت إلى مقتل ما لا يقل عن 700 شخص وتهجير مئات الآلاف. في ذلك الوقت، استجمع الجيش الكثير من قواته وبدأ باستعادة السيطرة على كبريات المدن، مثل السوكي والدندر وسنجة ومنطقة جبل موية وأجزاء من ولاية سنار الجنوبية، وهذا ما مكّنه، الأسبوع الماضي، من التقدم نحو مدينة ود مدني من ثلاثة محاور: المحور الأول هو محور الفاو، عبوراً بكوبري (جسر) حنتوب ثم محور سنار باتجاه الجنوب، ومحور المناقل غرباً، ليحقق هدفه أول من أمس، بإكمال السيطرة على المدينة الاستراتيجية، وسط أفراح ومسيرات في كل المدن الواقعة تحت سيطرة الجيش. في بيانه بالمناسبة، هنأ الجيش الشعب السوداني بالانتصار، مؤكداً أن قواته والقوات المساندة لها تتقدم بعزيمة وإصرار في كل المحاور لتنظيف كل شبر “دنّسته مليشيا آل دقلو الإرهابية في البلاد”، في إشارة إلى قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي.
من جهته، تعهد رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، بأن يسترد الجيش “كل شبر” في البلاد سيطرت عليه “الدعم السريع”. وفي منشور عبر حسابه على منصة إكس بعد استعادة ود مدني، قال البرهان: “عهد القوات المسلحة السودانية لشعبها أن تسترد وتُطهّر كل شبر دنّسته مليشيا الدعم السريع”. وأضاف: “التحية لشعبنا الذي صبر على أذى المليشيا الإرهابية (الدعم)… والتحية لشركاء معركة الكرامة (الحرب ضد الدعم السريع) من القوات المشتركة (حركات مسلحة موقعة على اتفاق سلام) وقوات الأمن والشرطة والمقاومة الشعبية ومجموعات الإسناد الشعبي”.
من جهتها، قالت حركة العدل والمساواة، في بيان، إن تحرير مدينة ود مدني والانتصارات في مختلف جبهات القتال “تمثل ثمرة لتضحيات جسام وتلاحم تاريخي بين القوات المسلحة السودانية والقوة المشتركة والقوات المساندة وجموع الشعب السوداني”، مبينة أن الانتصارات التي تحقّقت” تمثل خطوة فارقة في مسار تطهير البلاد من مليشيا الدعم السريع، وتبشر بقرب نهاية معاناة الشعب السوداني”. ودعت الحركة من تبقّى من “مليشيات الدعم السريع لإلقاء السلاح والاستسلام”. من جانبها، أقرت قوات الدعم السريع على لسان قائدها الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالهزيمة، وقال في تسجيل صوتي إن قواته خسرت معركة ولم تخسر الحرب. وأردف: “نحن نقاتلهم منذ 21 شهراً وسنقاتلهم لـ21 عاماً”. وزعم أن الطائرات الإيرانية المسيّرة ومشاركة مليشيات إثيوبية إلى جانب الجيش، هي ما قادت إلى هزيمتهم في معركة ود مدني، متوعداً بعدم الاستسلام ومواصلة الحرب.
ود مدني رمّانة الميزان العسكري
عن هذه التطورات، رأى الخبير الأمني والعسكري السوداني أمين مجذوب، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن مدينة ود مدني هي رمّانة الميزان العسكري في السودان وتربط بين عدة فرق عسكرية مثل الفرقة الأولى في ود مدني والفرقة الثانية في الفاو والفرقة الرابعة في القضارف، عدا فرقة النيل الأبيض، مشيراً إلى أن ود مدني تتصل بالحدود الشرقية للبلاد وحدود دارفور وتوصل إلى العاصمة بالتالي من يسيطر على ود مدني يسيطر على قلب السودان. وأضاف مجذوب أن “الدعم السريع” كانت تتمسك بالمدينة ومنها ترسل قواتها إلى الخرطوم وإلى ولايات أخرى في السودان، مبيناً أن استراتيجية الجيش كانت صحيحة وذلك بالبدء بمدينة ود مدني وليس العاصمة الخرطوم. وتوقع حدوث انهيار لـ”الدعم السريع” في الخرطوم قريباً بعد قطع خطوط الإمداد غرباً وشرقاً وجنوباً وشمالاً، وأكد أنه “بعد تحرير ود مدني انتهت الحرب بنسبة أكثر من 90%”.
وبرز أمس الأحد إعلان الجيش السوداني سيطرته على مجمع الرواد السكني وسط الخرطوم. وقال في بيان إن “أبطال سلاح المدرعات بمنطقة الشجرة العسكرية سيطروا على مجمع الرواد السكني، وكبدوا مليشيا التمرد خسائر كبيرة في الأرواح، مع الالتزام بسلامة الممتلكات الخاصة والعامة طبقا للقانون الدولي وقواعد الاشتباك”.
هيثم الشريف: هزمت استعادة الجيش المدينة فكرة تقسيم السودان من خلال مقترح تشكيل حكومة موازية
من جهته، قال هيثم الشريف، المتحدث باسم مؤتمر الجزيرة، وهو مرصد حقوقي نشأ بعد الحرب، إن مدينة ود مدني تشكل قلب السودان النابض، وولاية الجزيرة هي أكثر الولايات تجانساً اجتماعياً بلا أي نزاعات قبلية أو مجتمعية وتمثل كل السودان، وهي المورد الاقتصادي الأعظم لخزينة الدولة، خصوصاً بعد اشتعال الخرطوم. وأوضح أن “الكثير من رؤوس الأموال والشركات والمؤسسات انتقلت إلى ود مدني التي مثّل سقوطها نهاية العام 2023 فاجعة عسكرية كبيرة، لأن الحدث فصل بين قوات الجيش وأضر بالعمليات العسكرية، ما أدى إلى سقوط مدن أخرى مثل سنجة وجبل موية والدندر وخلافها، وفاقم كل ذلك أمد الحرب”. وأضاف الشريف في حديثه لـ”العربي الجديد”، أنه بعد انسحاب الجيش من ود مدني وولاية الجزيرة، حوّلت “الدعم السريع” حربها ضد المواطنين في الجزيرة، ومارست في حقهم أبشع الانتهاكات ودمّرت البنى التحتية والموارد، مشيراً إلى أن استعادة الجيش ود مدني هي بمثابة استعادة للتعافي في أكبر ولاية منتجة وهي وحدها قادرة على سد العجز الاقتصادي. ولفت إلى أن خمسة ملايين نازح في انتظار العودة للولاية بعد اكتمال تحريرها، وهم ينتظرون تحسين خدمات المياه والكهرباء وإعادة شبكة الاتصالات وتحسين البيئة عموماً.
أما المحلل السياسي حسن عبد الحميد، فاعتبر في حديث لـ”العربي الجديد”، أن قيمة الانتصارات التي حقّقها الجيش باستعادة ود مدني، ستكون لها أبعاد سياسية مؤثرة، فهي هزمت فكرة تقسيم السودان من خلال مقترح تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة “الدعم السريع” تكراراً للنموذج الليبي، فالمقترح يخسر مع كل خطوة يتقدم بها الجيش الذي أكد أنه مع وحدة السودان، وأنه حريص على تحرير المدن الكبرى بما فيها مدن دارفور. وأضاف أن كل المؤشرات تدل على انهيار قوات الدعم السريع التي بدأت في التداعي منذ سبتمبر/أيلول الماضي، وأن قوة الجيش على الأرض ستؤثر بالتأكيد في مواقفه التفاوضية مستقبلاً، إذ يمكن أن يتمسك بعدم وجود مستقبل سياسي أو عسكري لـ”الدعم السريع”، حتى بالنسبة للمبادرة التركية التي تتوسط فيها أنقرة بين السودان والإمارات.
فائز السليك: خروج “الدعم” من الخرطوم قد يقود في النهاية إلى انسحابها لجهة الغرب، مشكّلة واقعاً أقرب للدولتين
أما فائز السليك، السكرتير الصحافي السابق لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، فاعتبر من جهته، أن استعادة الجيش مدينة ود مدني هي ضربة عسكرية لـ”الدعم السريع” التي بدأت تُمنى بخسائر سياسية منذ دخولها المدينة، وذلك بسبب ما ارتكبته من انتهاكات في المدينة وفي ولاية الجزيرة عموماً، مشيراً إلى أنه ثبت أن “الدعم” انتشرت خارج الخرطوم من دون أي استراتيجية لأن ذلك الانتشار أضعف قوتها العسكرية. وتوقع السليك في حديث لـ”العربي الجديد”، أن تخسر “الدعم السريع” بقية مناطق ولاية الجزيرة، وأن تصل الخسارة حتى إلى الخرطوم، ما يقود في النهاية إلى انسحاب “الدعم السريع” لجهة الغرب، مشكّلة واقعاً أقرب للدولتين ما ينذر بالتقسيم حتى ولو من دون اعتراف دولي، مبيناً أن تلك الاحتمالات تقرأ في سياق الدعوات لتشكيل حكومة موازية وهو خيار تتبناه “الدعم”.
العربي الجديد