من ممارسة التدريس الجامعي إلى استصلاح الأراضي في السودان

من ممارسة التدريس الجامعي إلى استصلاح الأراضي في السودان
يحاول البروفيسور اليسع حسن أحمد، أستاذ النقد والدراسات المسرحية بكلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، استعادة ذكرياته مع المنزل الذي شيده على مدار تسع سنوات بمساعدة زوجته نفيسة مختار، الإعلامية بمصلحة الإحصاء في الخرطوم.
يسترجع البروفيسور بدايات تشييد منزله في ضاحية الجريف شرق عام 1997، عندما نصحه أحد أصحاب متاجر بيع مواد البناء قائلًا: يا ولدي، لا تستهن بأي مبلغ مهما بدا لك ضئيلًا، فحتى قروش البسكويت يمكن أن تبني بها بيتًا إذا أحسنت استغلالها!
عمل بنصيحته، وبدأ ببناء منزله في حي الهدى، مربع 3 شرق النيل، حتى اكتمل في عام 2006، لكن مع اندلاع الحرب استولى المتمردون على منزله، وحولوه إلى حظيرة لتجميع الأغنام المسروقة.
العودة إلى الجذور
عادت قرية كرقس إلى ذاكرة البروفيسور منذ اللحظة التي وطئتها فيها قدماه مجددًا، هنا وُلِد وترعرع، وهنا تفتحت مداركه الأولى، كانت تربطه علاقة روحية بالمكان، حتى وهو بعيد عنه لسنوات طويلة..
يقول: أمضيت أكثر من ثلاثين عامًا بين قاعات الدراسة والبحث العلمي، والعمل التلفزيوني والمؤتمرات العلمية، داخل وخارج السودان، كنت بعيدًا عن الفلاحة لكنها لم تغادر وجداني، قبل التحاقي بالجامعة كنت مزارعًا، وجميع أهلي من المناصير أهل فلاحة، حتى والدتي -رحمها الله- كانت تفلح الأرض بيديها.
يروي اليسع عن قصته مع قريته كرقس قائلًا: تعد كرقس منطقة أثرية، كانت تمثل الحدود الجنوبية للمملكة المصرية القديمة، جاء إليها أجدادي من ديار المناصير نازحين، فاستقروا بين أهل الرباطاب، وهم قوم عرفوا بالطيبة والمحبة، ليس فيهم قسوة أو غلظة، وجد أجدادي فيهم أهلًا وناسًا، فتعايشوا معهم، ولهم الأرض ولنا الفلاحة، وكان المحصول يُقسم بيننا بالنصف.
الإيثار والكرم وسط المحنة
مع استعداده لزراعة الموسم الشتوي، واجه البروفيسور تحديًا في توفير بذور الفول؛ إذ ارتفعت أسعارها بشكل كبير، أثناء بحثه قاده القدر إلى أحد أبناء المنطقة المعروفين بالكرم، حيث ذهب برفقة ابن أخيه لسؤال الرجل عن السعر، وعندما عرف الأخير أن اليسع جاء نازحًا من الخرطوم بسبب الحرب، قال له: لولا الظروف لأعطيتك البذور مجانًا، لكن خذها بنصف الثمن، وسدد متى ما تيسرت لك الأمور.
يروي اليسع بأسى تفاصيل احتلال منزله، قائلًا: “استولت قوات الدعم السريع على منزلي في حي الهدى بشرق النيل، وحولته إلى حظيرة لتجميع الأغنام والبهائم التي نهبها الجنود، لم يكن لمنزلي ذنب سوى أنه بلا طوابق، فاستُهدف دون غيره”. لكن الفاجعة الكبرى لم تكن في المنزل فحسب، بل امتدت إلى مكتبته، التي كانت تضم نحو ألفي كتاب في مجالات الأدب والنقد والدراما والثقافة والتاريخ، إلى جانب رفوفها المصنوعة من خشب الماهوجني الفاخر، والتي استُخدمت جميعها كحطب للطهي.
ظل البروفيسور مقيمًا في منطقة شرق النيل رغم أصوات الرصاص الأولى التي انطلقت يوم 15 أبريل/ نيسان 2023، متمنيًا أن تنتهي الحرب سريعًا ويعود الاستقرار إلى الخرطوم، لكن مع تفاقم الأوضاع يومذاك أصبح الاحتفال بعيد الأضحى في منطقة شرق النيل أمرًا مستحيلًا، رغم أنه اعتاد على العيد هناك سنويًّا، لكنه هذه المرة قرر مغادرتها مضطرًّا ومجبرًا إلى مسقط رأسه، قرية كرقس بولاية نهر النيل، التابعة لديار الرباطاب، فكانت الفرحة بالعيد منقوصة رغم وجوده بين أهله وأسرته وإخوانه.
ويضيف بحسرة: “أمام منزلي كانت هناك أربع نخلات من نوع (ود لقاي) وشجرة مانجو مدللة، بذلت لها عمري وتجربتي، لكنها قُطعت جميعًا لتُستخدم وقودًا للنار.
فوائد غير متوقعة للزراعة
بعد عودته إلى قريته، قرر البروفيسور العودة إلى الفلاحة، فاستأجر واستصلح ستة أفدنة من الأراضي التي هجَرها أصحابها بسبب النباتات الطفيلية، قام بتنظيفها بنفسه من النباتات بمساعدة أبنائه، الذين أراد لهم أن يتعلموا العمل والاعتماد على النفس في ظل هذه الظروف الصعبة.
يقول: “كان أهل القرية يظنون أنني أستأجر عمالًا لتنظيف الأرض، لكنني كنت أقوم بذلك مع أولادي بنفسي، اكتشفت أن لنباتات الكزبرة والشمار زهورًا جميلة لم ألحظها من قبل، كما أن الزراعة أعادت لي لياقتي البدنية، وخففت عني أعراض مرض السكري، حتى إنني أصبحت أقل احتياجًا لبعض الأدوية، وبالإضافة إلى ذلك، فإنني الآن أُطعم أسرتي وأقاربي من زراعة يدي، وهو إحساس رائع لم أكن أقدّره في زحام الحياة”.
الدعوة لاستصلاح الأراضي
بعد تجربته في الزراعة، أصبح البروفيسور مقتنعًا بأن الاستثمار في استصلاح الأراضي قد يكون حلًّا مستدامًا لكثيرين، يدعو الشباب إلى توجيه طاقاتهم نحو الزراعة والفلاحة، معتبرًا أن الخير العميم الذي وجده في الأرض يستحق أن يُستثمر فيه بجدية.
مساهمات رائدة في الثقافة السودانية
لم تمنعه ظروف أسرته الاقتصادية من التفوق العلمي ومواصلة مشواره الدراسي والأكاديمي، والبحثي فيما بعد في النقد والدراسات الدرامية والإعلام.
حصل البروفيسور اليسع على: درجة الدكتوراه في النقد والدراسات الدرامية من جامعة السودان عام 2009، درجة الماجستير في النقد المسرحي عام 2003، بكالوريوس النقد والدراسات الدرامية عام 1994.
قام بدراسة تطور الدراما الإذاعية في السودان منذ نشأتها في أربعينيات القرن الماضي، محللًا تأثيرها على المجتمع السوداني حتى عام 1980، حيث خلص إلى أن الراديو كان الأداة الأكثر تأثيرًا في تشكيل الذوق العام، نظرًا لانتشاره الواسع في بلد يعاني من ارتفاع نسبة الأمية وضعف المواصلات والاتصالات.
إلى جانب عمله الأكاديمي، كتب اليسع مقالات نقدية في الصحافة السودانية، في صحف مثل “سنابل” الثقافية و”الصحافي الدولي”، حيث سعى إلى ربط التخصص الأكاديمي بالممارسة العملية، وقدم دراسة نال بموجبها درجة الماجستير حول النقد الدرامي في الصحافة السودانية.
وأسهم اليسع في فوز برنامج “دنيا” بالجائزة الثانية في مهرجان الإعلام العربي 2008م. كما نشر عددًا من الأبحاث العلمية المحكمة، من بينها: “دراما الإذاعة السودانية وتجليات المكان” (مجلة كلية الآداب، جامعة دنقلا)، و”البنية الفكرية والاجتماعية للمثقف في السودان الحديث” (مجلة العلوم الإنسانية، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا).
يؤمن البروفيسور اليسع أن الأرض ميراث الصالحين، وأن الإصلاح والبذل والإحسان قيم جوهرية في الحياة، سواء في المسرح أو في الفلاحة. فبعد أن فقد منزله ومكتبته، وجد عزاءه في العودة إلى الأرض، حيث يصبح البذر عطاءً، والعمل إصلاحًا، والأمل حياةً جديدةً.
خالد البلولة