قطيعة مع دولة الحزب والحرب في السودان

قطيعة مع دولة الحزب والحرب في السودان

ربّما لم يكن قيادياً في حزب المؤتمر الوطني، في السودان، الذي دعا إلى التصالح مع القوى السياسية أخيراً، هو الأنسب لتبنّي هذا النداء، فالتصالح تقليد سوداني، رؤية إسلامية مثلما هو ركيزة بنيوية في حقوق الإنسان. بهذا المنظور، يشكّل التسامح دعوةً إلى الحُبّ وتحريضاً على نبذ الكراهية والتطرّف على الصعيد الوطني. لكن القيادي المعني عُرف عنه كسب العداوات بممارسة العنف اللفظي (أبسط أشكال الغلو في الكراهية)، فهو عليه مجبول. لكنّ ذلك لا يدحض حتمية التلاقي عبر رواق التسامح والتصالح بغية الخروج من تحت أنقاض هذه الحرب المدمّرة، بل ربّما هو أقصر الممرّات المُفضية إلى الاستنفار الجماعي بغية إعادة بناء وطن جميل معافىً حداثي عامر بالحُبّ والخير والإنتاج. عبر هذا الرواق وحده يمكننا الانتقال السريع من الاشتباك حول تفكيك دولة الحزب إلى الاصطفاف من أجل علاج جراح الحرب. هذه بلا جدال مهمّة الساعة الوطنية، فالتجربة المعيشة تثبت تورّطنا في الكراهية كلّما توغّلنا في الدم والتدمير، كما تثبت أنه ليس بالسلاح وحده يُبلَغ النصر أو السلام.

لكن القوى السياسية لا تتطلّع عند منعطفنا الراهن من قيادات “المؤتمر” إلى نداء محوره التسامح والتصالح، تترقب منهم قبل ذلك اعتذاراً مطوّلاً عن خطايا الحزب المتراكمة طوال ثلاثة عقود مشرّبة بالدم والقمع والفساد. فمن شأن ذلك الاعتذار نقل القضية الوطنية بأسرها من مهمّة تفكيك دولة الحزب إلى معالجة جراح الحرب. فالاعتذار (حال صدوره) ينبغي أن يفصح عن نيّة صادقة ورغبة خالصة وإرادة جادّة للتخلّي عن التسلُّط والهيمنة على مصير الشعب والوطن، والتلاقي مع القوى السياسية كّلها، بل هو ينطوي (وإن لم يفصح علناً) على شعور بالندم (بنحو متوازٍ) على ظلامات وظلمات اقترفها نظام الإنقاذ، إبّان العقود الثلاثة الجائرة. فعندما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير: “من الخطير أن تكون على حقّ عندما تكون على خطأ”، فإنما كان ينتقد الانفراد بالسلطة المطلقة.

في المقابل، لا بدّ للقوى السياسية من تلقّي ذلك الاعتذار (حال صدوره) بتسامح، وإن اقتضى ذلك كتمان الغيظ بدافع الحسّ الوطني، إن لم يأتِ بوازع الشعور الديني. فإذا صدر الاعتذار من طرفٍ واحد، فإن التسامح رقصة تانغو، لا تُؤدّى على نحو منفرد. نحن أحوج ما نكون على الصعيد الوطني إلى التلاقي الجماعي بغية تجريف طبقات التناحر البغيضة المتراكمة كلّها، بل هي حتمية سياسية من أجل بناء سودانٍ ديمقراطي حداثي متحرّرٍ من رواسب الاستبداد والجهل والفساد والعلائق المشّوهة المتوارثة. يتجاوز التسامح السياسي فضّ النزاعات إلى تكريس التعايش المجتمعي بقبول الآخر على نسقه المغاير إثنياً وثقافياً.

تثبت التجربة المعيشة تورّطنا في الكراهية كلّما توغّلنا في الدم والتدمير، كما تثبت أنه ليس بالسلاح وحده يُبلَغ النصر أو السلام

من دون ممارسة التسامح، بل تجذيره في تربة السودان الحديث (ليس الجديد)، لن نخرج من تحت أنقاض الحرب المادّية والمعنوية. ذلك السودان المرتجى يتطلّب التسلّح بقيم إنسانية على غرار التسامح، بغية مغادرة عصبيات الثأر القَبلية والجهوية، والتطهّر من أحقاد الانتقام الشخصية. نعم، توجد أطنانٌ ثقيلة ممّا يحرّض على الثأر والانتقام على المستوى الجماعي والفردي. مع ذلك، هناك يقين بعدم بلوغ الرضا للتعويض عبر الثأر والانتقام عمّا فقدناه في أتون ممارسات الاستبداد والقمع والنهب والهتك والوقاحة. كذلك، حينما يرتبط الأمر بالشأن العام، فإن مبدأ العين بالعين والسنّ بالسنّ لا يحفر مسارات المستقبل الوطني، فالتصالح هو السبيل الأيسر إلى شدّ عصب المجتمع واستنفار قواه من أجل البناء والتقدّم. فكما قال الحكيم الصيني كونفوشيوس: “الحُبّ أساس بناء مجتمع متناغم”.

بغضّ النظر عن الاتفاق أو التباين مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلا أنه بات يُجسّد رأس الرمح لعمليات التحوّل الأكثر حدّة لجهة إحداث قطيعة مع السياسات المتداولة عقوداً مديدةً على صعيد المعمورة. فثمّة موجات لهذه القطيعة في المحاور الاستراتيجية العتيقة على الصعيد الدولي، قيمة ترامب أنه يأخذ بحدّة حدّ التهور مزج القطيعة مع المتوارث في ميدانَي السياسة والاقتصاد. تلك الموجات تبلورت ملامحها السياسية قبل نحو عقدَين، فيما عُرف بـ”الطريق الثالث” في أميركا بيدَي سلفه بيل كلينتون، وفي بريطانيا مع توني بلير، وفي ألمانيا مع غيرهارد شرودر، ثمّ في فرنسا مع صعود الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون. واستهلّها في الجبهة الاقتصادية في روسيا فلاديمير بوتين، وقطع الرئيس الصيني شين جين بينغ فيها مشواراً طويلاً. ربّما تندرج في هذا السياق، محاولات ولي عهد السعودية محمّد بن سلمان المثيرة للجدل بإحداث قطيعة داخل المملكة في الحقل الاجتماعي.

يحتاج السودان قطيعة حادّة تحدث تحوّلات جذرية في الجبهات كلّها، وعلى نحو عاجل

يحتاج السودان قطيعة حادّة تحدث تحوّلات جذرية في الجبهات كلّها، وعلى نحو عاجل. لكنّ ذلك الموزاييك الاجتماعي المُشرّب بتقاليدَ رثّةٍ، تندرج فيها خيوط التناحر والثأر، المستوطنة والمصنّعة، يفترض وجودَ قيادةٍ مقتدرةٍ ذات كاريزما جاذبة، وإيمان راسخ بإنجاز مهمّة تبدو مستحيلة. في غياب هذا الأنموذج القيادي، يصبح العمل الجماعي الواعي المؤمن بتحمّل عبء قضية وطنية ذات أولوية قصوى. الفريق نفسه مطالب بتجسيد الأداء الجماعي المتناغم المتفاني. فريق ينهض برفع الأنقاض وردم الشقوق وبناء السقوف كلّها داخل الدولة وإطفاء الحرائق في البوادي والمدائن وفق تخطيط حداثي، كما ينهض في الوقت ذاته بعلاج الجراحات ولجم التفلّتات ورتق الفتوق على المستوى الاجتماعي. قبل إنجاز هذه المهام تتعرض حتماً مهام إعادة البناء الاقتصادي والتعمير الملحّة إلى عثرات تعرقل مساراتها وتقدّمها.

حينما ننصب آليات العدالة وموازينها داخل إطار الدولة، نحمل كلّ متهم أو مجرم على الوقوف أمام المساءلة بروح القانون ونصّه، “فلا ينفع تكلمٌ بحقٍّ لا نفاذ له”، كما أوصى عمر بن الخطاب. الدولة لا تعاقب مكوّناتها المجتمعية، ذلك شأن ربّاني له أوانه، أمّا الدولة فمسؤولة عن تقويم الأفراد وردع الجماعات إذا اقتضى الأمر، لكن تلك مهمّة يتم تنفيذها بآليات الدولة ووسائطها الفعّالة في ميدان الأمن وساحات العدالة وفق الدستور، ولا ينوب عنها في ذلك فرد أو فريق.

عمر العمر



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.