أيّهما الأسوأ… حرب السودان أم حرب غزة؟

أيّهما الأسوأ… حرب السودان أم حرب غزة؟

خلال المتابعة المُضنية ليوميات الحربَين في غزّة والسودان، قد يتبادر إلى الذهن تساؤلٌ يثيره التلازم الزمني بين الحربَين: أيهما أسوأ وأشدّ وطأةً؟… الجواب الفوري أن كلّاً من الحربَين أسوأ من الأخرى، فالحرب على غزّة تنحو منحى الإبادة والتطهير العرقي، والحرب على السودانيين تجرّف المدنيين في طريقها وتحرقهم في أوارها. وبمناسبة إتمام الحرب في السودان عامها الثاني (14 إبريل/ نيسان الجاري)، فقد وصفتها المفوضية العامّة للاجئين بأنها أسوأ أزمة إنسانية في العالم. وسبق لمسؤولين في الأمم المتحدة (منهم الأمين العام، أنطونيو غوتيريس، ومفوّض وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فيليب لازاريني، أن وصفوا الحرب على غزّة بـ”أسوأ كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية”. بهذا، فإن الحربين تتنافسان بجدارة على المركز الأسوأ بشهادة أعلى منظّمة دولية. والشاهد أن كلا الحربَين مُريعتان ووحشيتان. وإذ تلقى الحرب على غزّة متابعة إعلامية أوسع، فذلك لأنها ذات أبعاد إقليمية ودولية، فالولايات المتحدة ودول غربية أساسية تدعم الاحتلال الإسرائيلي في حربه، فيما يجاهر هذا الاحتلال برغبته في اقتلاع أبناء القطاع جميعهم وتهجيرهم. وإلى أن يحدُث هذا (بحسب المخطّط الإسرائيلي)، فإن حملة الإبادة والتجويع لا تنقطع، وبينما يردّد قادة الاحتلال اسم حركة حماس في كلّ تصريح لهم، فالحرب تصلي بنيرانها الكتلة البشرية في القطاع، ومنها “حماس”. تستهدف الكلّ لا الجزء.

إحدى لعنات الحروب أنها تدفع العائلات المهدّدة بالمخاطر الماحقة إلى التماس النجاة والدفاع عن الحقّ في الحياة بكل ما يتيسّر
ومن المثير للانتباه أن كلّاً من السودان وغزّة يقعان في حدود مصر، أكبر دولة عربية، وسبق أن كان لمصر حضور تاريخي كبير في السودان وغزّة، وقد احتضنت مصر أعداداً كبيرة من اللاجئين السودانيين تفوق المليون، وقد بدأ عدد منهم بالعودة المطّردة إلى بلادهم بعد نجاح القوات المسلّحة في استعادة الخرطوم من مليشيات الدعم السريع. كما استقبلت مصر عديدين من أبناء غزّة، ومع سيطرة الاحتلال على معبر رفح أُغلقت بوابة العودة إلى القطاع. وتزداد المحاذير في الأثناء من تهجير كبير تُهيّئ له حكومة بنيامين نتنياهو، ومحاولة وضع السلطات المصرية أمام أمرٍ واقع يختلط فيه الإنساني بالسياسي. ورغم نفوذ مصر ووزنها الاستراتيجي الكبير، ورغم محاولاتها الحثيثة لوقف الحربَين، لم تنجح هذه المحاولات في هذا أو الحدّ أيضاً من الحربين.

ليست غاية هذه السطور عقد مقارنات، وإنما الإقرار بأن الكارثة في كلّ من غزّة والسودان تمنع الشعبين هنا وهناك، تحت ضغط المخاطر الداهمة على مدار الساعة، من التفاعل مع ما يجري في العالم الخارجي، وتحول من ثم دون إبداء التعاطف الواجب والبديهي نحو مأساة الشقيق. وهذه إحدى لعنات الحروب المتزامنة التي تدفع العائلات المهدّدة بالمخاطر الماحقة إلى التماس النجاة والدفاع عن الحقّ في الحياة بكل ما يتيسّر (أو يتم اختراعه) للبقاء في قيد الحياة، في مواجهة حرب وحشية مع ما يترتب على هذا الاستغراق في الجهد المُضني من انقطاع عن العالم الخارجي.
ويستوقف المتابع خلال ذلك أنه رغم الاختلاف التام في ظروف الحربَين وأهدافهما، والقوى المشاركة فيهما، ثمّة ما يجمع مآلاتهما، بل وجهتيهما العسكريتَين، من استهداف منهجي للمدنيين والمرافق المدنية وموارد الحياة. ومع أن المواجهات في السودان تتم بين الجيش السوداني ومليشيا كبيرة مسلّحة (قوات الدعم السريع) لكن المدنيين يتبوؤون موقعاً متقدّماً في بنك أهداف “الدعم السريع”. فمنذ بداية الحرب، حرصت المليشيا المتمرّدة على تكبيد المدنيين ثمناً غالياً، إذ اتخذت منهم دروعاً بشرية، ثم دفعتهم إلى النزوح، واستباحت بيوتهم وأرزاقهم وأسواقهم، وطاردت النازحين، واقترفت الفظائع بحقّهم خاصّة النساء. وبينما نزح أربعة ملايين إلى الخارج، نزح 13مليوناً نسبة كبيرة منهم من الأطفال، إلى داخل البلاد، وسط مخاطر المجاعة وشُحّ المياه وانتشار الأوبئة. وتلجأ المليشيا إلى البرهنة على استمرار سطوتها، إلى استهداف المدنيين وتجمّعاتهم ونهب أرزاقهم إضافةً إلى نهب المخزونات الغذائية وقوافل الإغاثة، في سلوك شبيه بما اقترفته قوات بشّار الأسد ضدّ المدنيين السوريين، وذلك بحثاً عن انتصارات رخيصة، وهو ما ترتكبه قوات الاحتلال يومياً في غزّة، التي بدأت الحرب عليها بعد نحو ستّة أشهر من اندلاع حرب محمّد حمدان دقلو الدموية للاستيلاء على السلطة في الخرطوم، ومحاولة إرغام الناس بالحديد والنار على السير في ركابه والتجنّد في “جنجويده” (الاسم القديم لمليشياته).

تفتقد “الدعم السريع” حاضنةً شعبية بعد انكشاف مشروعها القائم على الاستحواذ على السلطة بأيّ ثمن وبأيّ وسيلة
ومثير للدهشة أن قيادة “الدعم السريع” تدعو في منصّاتها إلى الحكم المدني واستعادة الديمقراطية، في حين أنها تعمل من أجل الاستحواذ على السلطة باستخدام المدنيين وقوداً لهذه الحرب. ولم يكن الطرف الآخر، الذي يتمتّع بالشرعية مُنزّهاً عن الأخطاء، إذ إن انقلاب أكتوبر (2021) على الاتفاق مع القوى المدنية، وعلى الحكومة القائمة آنذاك (برئاسة عبد الله حمدوك)، قد أثار شهيةَ دقلو ليقوم بانقلاب على السلطة، أملاً بأن تسيطر قواته على قيادة القوات المسلّحة وعلى الحكم، بدل أن تنضمّ قواته إلى الجيش. وبينما يحاول دقلو في الأثناء إنشاء حكومة موازية، أعدّ مجلس السيادة الحاكم وثيقةً دستوريةً لاستعادة مشاركة واسعة للقوى المدنية، وإطلاق عملية سياسية تستغرق 39 شهراً، تُتوّج بانتخابات، وذلك كلّه مرهون بمواصلة محاصرة قوات الدعم السريع ودفعها إلى التفاوض على الاستسلام، وهي باتت تفتقد حاضنةً شعبية بعد انكشاف مشروعها القائم على الاستحواذ على السلطة بأيّ ثمن وبأيّ وسيلة. وفي المحصلة، يلوح في هذه الآونة بعض الضوء لوضع نهاية لهذه الحرب المدمّرة، نتيجة تقهقر المليشيا المتمرّدة عن العاصمة ومناطق أخرى، وانشقاق بعض قياداتها، وانضمامها إلى الجيش، وزيادة الدعم السياسي الخارجي للقوات المسلّحة الشرعية. فيما تبدو الآمال ضعيفةً حتى تاريخه بإلزام الاحتلال الإسرائيلي إنهاء حربه الوحشية على مليوني غزّي محاصرين برّاً وبحراً وجوّاً في رُقعة ضيّقة وسط ركام ما كانت بيوتاً وأسواقاً ومدارسَ وجامعاتٍ ومستشفياتٍ ودورَ عبادة.
ومن المفارقات المؤسّية عند التطرّق إلى كلّ من الحربَين الطاحنتَين، أنه بينما يشنّ الاحتلال الإسرائيلي حرباً منهجيةً على أبناء الأرض الرازحين تحت وطأة الاحتلال، سبق للسودان الرسمي أن أبرم مبدئياً (في العام 2020) اتفاقَ “سلام” مع هذا الاحتلال، ولحسن الطالع والتدبير أن هذا الاتفاق لم يُستكمَل، إذ لم تمضِ الحكومة فيه آنذاك، ولا أبدت تأييداً له، كما رفضته القوى السياسية باستثناء نزر يسير هامشي منها.. عسى أن يسود السلام والوفاق ربوع السودان في أقرب الآجال، وأن تتحقّق أماني شعبه في الأمن والكرامة والرخاء، وأن تقف الخرطوم مُجدّداً وكما هو عهدها مع القضايا العادلة، وإلى جانب شعب شقيق يكافح من أجل الحرية والاستقلال.

محمد الريماوي



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.