ماهكذا تدار دفة الاقتصاد .. الموازنة الحكومية نموذجا

ماهكذا تدار دفة الاقتصاد:
الموازنة الحكومية نموذجا.
بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم
ملخص:
“رؤيتنا أن عدم مراجعة بنود الصرف في اي موازات سابقة في بدابة كل عام وتحديد المسؤولية والأسباب من الانحراف في تنفيذها، وكذلك رفع الفئات الضريبية أو زيادة الأجور خارج اطار ما اتفق عليه عند اجازة الموازنة، وكذلك الانفاق من الموارد المالية التي يتم تجنيبها في بعض المؤسسات الحكومبة يجعل الاهتمام السنوي بالموازنة الحكومية من كافة الجهات الرسمية والشعبية والأكاديمية ليس أمرا عمليا بل ضربا من الرفاهية الفكرية ونقاشا غير مجديا، طالما أن ما يتفق عليه وتمت اجازته عبر الطرق والاليات المعروفة لن يطبق على الأرض”.
تحدث الى صديق قائلا ان مشكلة الاقتصاد السوداني كما أسماها في (تشوهات الصرف من الناتج المحلي الاجمالي !!). في الحقيقه هذا الكلام من ناحيه اقتصاديه ليس صحيحا. الصرف لايتم من الناتج المحلي الاجمالي بل من الموازنة الحكومية المجازه. في الحقيقة هناك خلط لغير المتخصصين في الاقتصاد بين الموازنة الحكومية (توقعات الدخول والصرف الحكومي خلال عام مالي يبدأ من بداية العام وينتهي بنهايته) والناتج المحلي الاجمالي (قيم السلع والخدمات المنتجة في الدولة خلال نفس العام). هذا الخلط نعتبره تشوها في الفهم المؤشرات الاقتصاد، ولكن الأخطر منه الممارسات غير الصحيحة وغير القانونية في مسار اعداد وتنفيذ ومراقبة الموازنة بالسودان، ليس حاليا فحسب بل تاريخيا وربما منذ السبعينات. هذا المقال لا يتحدث عن موازنه ٢٠٢٤ التي سميت ب “موازنه حرب” وهي بالتالي لا تخضع للمعايير التي سترد هنا.
في البدء ينبغي لنا القول أن الاقتصاديون الماليون يحتاحون إلى الفهم الكامل لأي نقاط ضعف في عملية وضع ومن ثم تنفيذ موازنة الدولة ومراجعتها بعد تطبيقها. هنالك أسئلة مهمه في هذا الصدد ينبغي الاستجابة لها. ماهو موقف الشفافية في الموازنة الحكومية؟ ، وهل تخضع وضع واجازة الموازنة الحكومية للترتيبات المتعارف عليها دوليا ؟ وهل هناك خطوط واضحة للمساءلة في حالات تخطي الصرف؟ وهل تتوفر المعلومات المتعلقة بتنفيذ الموازنة في الوقت المناسب وبشكل موثوق ودقيق لكيلا يتأخر اعلانها نهاية كل عام؟ وهل يتوافق ذلك مع مبادئ الحكم الرشيد؟
بناءً على هذا الفهم ولاهمية الشفافية وقانونية التنفيذ والمراجعة والمساءلة وموثوقية البيانات، من المحتمل أن تنشأ كثير من المشاكل التي تؤدي لانحراف أداء الاقتصاد الكلي من باب الموازنة الحكومية. أول الممارسات غير الصحيحة هو التقديرات المبالغ فيها من قبل المؤسسات الحكومية لبنود الصرف خلال العام مما يعرضها للتعديلات بالتخفيض من جانب وزارة المالية، وربما بدون أسس علمية وعملية بل من باب تخفيض الصرف الحكومي فقط دون مراعاة لأوجه الصرف الضرورية لان الجهتين المؤسسات و الوزاره يلعبان لعبه التكبير والتخفيض. كما نرى أن موازنات الهيئات والمؤسسات الحكومية تركز في الأساس على بنود الصرف الجاري كالاجور والمرتبات والحوافز وليس الصرف لبنود الصيانة أو التنمية. فضلا عن غياب النظر في أداء الموازنة السابقة وانحرافاتها وتحديد المسؤوليات والأسباب عن هذه الانحرافات وهل الانحرافات تمت اجازتها من البرلمان قبل الصرف.
الجدال الذي يدور كل عام قبيل صدور الموازنة وبعدها في البرلمان ووسائل الاتصال والمختصصين والمحللين في بنود الصرف للقطاعات المختلفة في الاقتصاد مثل الفصل الأول الأكبر حجما في أي موازنة والذي يعني بزيادة الاجور في القطاع الحكومي، و زيادة أو عدم زيادة الضرائب خلال العام المالي للموازنة وغيرها من الموضوعات المتعلقة بالموازنة. هذا الجدل لا يعني بالنسبة لي كواحد من الاقتصاديين أي قيمة فعلية اذا كان البرلمان أو مجلس الوزراء لا يناقش في العام الذي يلي الموازنة كيف كان أداء الموازنة وانحرافاتها في العام السابق ويحدد المسؤولية عن هذا الانحراف، علما بأن أي تعديل في الموازنة بزيادة الفئات الضريبية مثلا أو زيادة الأجور بنسبة لم تقرها الموازنة يعد انحراف في الصرف وينبغي أن يوافق عليه البرلمان بعد سرد المبررات الاقتصادية لهذه الزيادات خلال العام وقبل البدء في تطبيقه بديلا عن ما أتفق عليه في الموازنة القديمة التي أجيزت في بداية العام المالي. هنالك أمثلة متكررة في مسار الموازنات بالسودان متعلقة بزيادة الفئات الضريبية أو زيادة الأجور خلال العام بنسب لم تقر في الموازنة، كتلك التي حدثت في 2020 بنسبة 560% بعد جازة الموازنة مقارنة بنسية 100% التي أقرها مجلس الوزراء والمجلسين اللذان يشكلان البرلمان وقتها حسب الدستور القائم آنذاك والتي مولت من غير موارد حقيقية وأدت الى التضخم واثرت على سعر الصرف.
من الأخطاء السائدة في الموازنات بالسودان التحصير للموازنة والذي ينبغي التنسيق فيه بين وزارة المالية والبنك المركزي، خاصة فيما يتعلق بتوقعات البنك المركزي لتطورات سعر الصرف ونسب التضخم المستهدفة. وينبغي للحكومة ممثله في وزارة المالية ان تحترم توجهات البنك المركزي في هذا الصدد وتضع الموازنة بالتنسيق مع هذه التوجهات. ولكن يبدو أن الجهتان تعملان بصورة منعزلة وأن وزارة المالية تتحكم في سياسات البنك المركزي بسبب عدم الاستقلالية التي ارتبطت بتبعية البنك المركزي للحكومة وليس الجهة السيادية. في العادة ولتحقيق مبدأ الاستقلالية في كل الدول بما في ذلك جميع الدول العربية و الأفريقية تقوم فيه تبعية البنوك المركزية لرئيس الجمهورية، بينما ترفع تقاريرها الدورية للاجازة من البرلمان الذي يمثل الشعب.
ومن بين أهم تحديات الموازنات بالسودان وفي ظل الاعتماد على العائد الضريبي الضعيف والذي يعكس سلبا على الأسعار للمواطن، وكذلك غياب أو ضعف الموارد التمويلية الاخري غير الضريبية . هنالك مبالغة في تضخيم الإيرادات وكذلك زيادة المصروفات، مما يزيد من نسبة العجز الحقيقي السنوي. فضلا عن الاعتماد غير المباشر على الضرائب التي ستقود لمزيد من الضغوط على المواطنين، لأنها ترفع أسعار السلع والخدمات، علما بأن الفصل الأول من الموازنة (الاجور والمرتبات) تشكل النسبة الأعلي من الصرف وأي زيادة لا يقابلها صرف من مواد حقيقية من الضرائب مثلا ستكون عبئا على الموازنة والتضخم وسعر الصرف عبر الاستدانه من الجهاز المصرفي. ولاجراء مقارنة بسيطة لمتوسط َمعدل الضرائب للناتج المحلي الإجمالي (مقياس للإيرادات الضريبية للدولة بالنسبة لحجم اقتصادها) في 30 دولة أفريقية حوالي 16.5٪،(مع بعض الاستثناءات التي تصل الى نحو 30% في تونس وجنوب أفريقيا). والنسب الأفريقية أقل من المتوسط العالمي لدول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) البالغ 34.3٪. وتشير البيانات المتاحة إلى أن نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي في السودان بلغت 5.6% فقط في ديسمبر 2021، بينما كانت في 2020 نسبة 3.4%. صحيح أن نسبة الضرائب للناتج المحلي الاجمالي في السودان هي الأقل مقارنة بدول أفريقيا ولكن الاقتصاد السوداني لا يتحمل أي زيادة في فئات الضريبة أو ضرائب اضافية لان ذلك سينعكس على المستهلك زيادة في اسعار السلع والخدمات مباشرة في ظل ضعف التحكم في التضخم عبر السياسات الحكومية وسهوله تمرير أي زيادات على المواطن ولوجود أعداد كبيرة من الوسطاء الذين يتحملون الجزء الأكبر من التضخم.
والبديل لزيادة الفئات هو اعادة النظر في العائدات الضريبية من خلال سد الثغرات التي تمنح الاعفاءات والخصومات الضريبية تحت أي مبرر وتقلل التهرب الضريبي لاقصي حد للشركات والأفراد (tax avoidance and tax evasion). بذلك ستزيد قيمة الضرائب بدون زيادة في الرسوم الضريبية. وبدون النظر في أمر الضرائب، فان أي انحراف عن الموازنة يُحَمل البنك المركزي تبعات الضخ المالي لوزاة المالية البديل الأوحد المتوفر، أو ما يسمي بالاستدانة من النظام المصرفي بأكثر مما تقرره القوانين السائدة في البنك المركزي (الفقرة 57- أ، من قانون بنك السودان المركزي و التي تشير الى أنه يجوز للبنك المركزي أن يقوم بتسليف الحكومة بما لا يزيد من 15% فقط من دخل الحكومة في السنة المالية السابقة). هذا الصرف الحكومي بدون موارد حقيقية من الضرائب يزيد الكتلة النقدية ويؤثر سلبا على مجريات التضخم وسعر الصرف خلال العام كما حدث بعد اجازة موازنه العام 2020.
اخيرا، في السودان هناك قضية رئيسية وهي تجنيب الايرادات خارج الموازنة من بعض الجهات الحكوميه. دعونا اولا للفصل بين مفهوم الانفاق من خارج الموازنه والتجنيب. الصرف من خارج الموازنه يعني في الغالب الحسابات المملوكة لهيئات حكومية ولكنها غير مدرجة في الموازنة الحكومية. غالبًا ما يتم تمويل النفقات من هذه الحسابات من خلال الإيرادات المخصصة أو رسوم المستخدم وتكاليفه. الإنفاق خارج الميزانية الفيدرالية في الولايات المتحدة مثلا يسمح ببعض البرامج الحكومية خارج الميزانية، مما يعني أن إنفاقها وإيصالاتها محجوبة عن بقية الميزانية كصناديق الضمان الاجتماعي والخدمات البريدية. الإنفاق خارج الميزانية ليس بدعة ففي الموازنة الفيدرالية في الولايات المتحدة مثلا ووفقًا للبيانات المالية لوزارة الخزانة الأمريكية، تنفق الحكومة الفيدرالية الأموال على مجموعة متنوعة من السلع والبرامج والخدمات التي تدعم الاقتصاد وهناك أيضًا بعض البرامج الحكومية خارج الميزانية. ولا تدخل هذه البرامج في الموازنة الاتحادية لأنها تمول ذاتيا أو لها مصادر إيرادات خاصة بها مثل صناديق الضمان الاجتماعي وخدمة البريد الأمريكية. لكن ما يحدث بالسودان ليس صرفا خارج الموازنة الذي يحدد بالقانون بل هو (تجنيب) الموارد التي يتم تحصيلها من بعض الهيئات الحكومية والصرف منها داخليا بدون مبرر مما يعني غياب ولاية وزارة المالية على الموارد المالية وبالتالي زيادة الانفاق خارج الموازنة.
رؤيتنا أن عدم مراجعة بنود الصرف في اي موازات سابقة في بدابة كل عام وتحديد المسؤولية والأسباب من الانحراف في تنفيذها، وكذلك رفع الفئات الضريبية أو زيادة الأجور خارج اطار ما اتفق عليه عند اجازة الموازنة وكذلك الانفاق من الموارد المالية التي يتم تجنيبها في ابعض المؤسسات الحكومية يجعل الاهتمام السنوي بالموازنة الحكومية من كافة الجهات الرسمية والشعبية والأكاديمية ليس أمرا عمليا بل ضربا من الرفاهية الفكرية ونقاشا غير مجديا، طالما أن ما يتفق عليه وتمت اجازته عبر الطرق والاليات المعروفة لن يطبق على الأرض.



