فقدت والديها ومات زوجها وأخوها وأربعة من أبنائها صابرة.. أُنثى لها من اسمها نصيبٌ وافر

يقال إن لأي إنسان من اسمه نصيب.. لكن (صابرة) كان لها الاسم كاملا وليس نصيبا منه.. والمؤكد أن أباها حين أطلق عليها هذا الاسم وهي كبرى أبنائه لم يدر بمخيلته أن يلخص حياتها في اسمها فقد فجعت وهي بعد صغيرة بموت أمها لتجد نفسها أمّا لإخوتها الصغار، وهي التي ما زالت بحاجة لأم ترعاها وتحنو عليها.. ليبدأ مشوار الصبر والمصابرة الطويل.. تحملت وهي الصغيرة رعاية إخوتها مما كان سببا في حرمانها من حظها في التعليم اسوة بصحيباتها في حي مايو جنوب الخرطوم.
فقد ثانٍ
وما أن شبت عن الطوق حتى زوجها أبوها لابن أخيه زواجا لم يدم طويلا وكان ثمرته طفل أسمته معتصم.. وذاق صغيرها معها طعم الصبر وهو يكبر بعيدا عن رعاية الأب وحدبه.. ولكن جده وأمه أحاطاه بدفء واحتويا يتمه الحكمي بصبر وحب.. غير أنها فجعت في تلكم الفترة بفقد أخيها الذي كان يعينها على تربية إخوتها إثر علة مفاجئة فكان حزنها عليه عظيما.. ومضت سنوات الصبر وهي تقسم حنانها وجهدها بين ابنها وإخوتها وأبيها.. حتى تقدم لزواجها رجل من أبناء القضارف وكان أن أنجبت منه عددا من الأبناء شاء الله أن تفقد بعضهم صغارا، فعاش منهم أربعة صبي وثلاث بنات.
امتحانٌ جديد
لتجد نفسها مرة أخرى مرغمة على الجلوس لامتحان الصبر حينما لازمها الإعياء والمرض لتفاجأ بعلة في قلبها وبإصابتها بمرض السكر، غير أنها تماسكت ولكن الأقدار لها بالمرصاد فقد كانت ثالثة الأثافي أن توفي الأب الحاني الذي لم يتزوج بعد وفاة أمها وتفرغ لمساعدتها على تربية إخوتها.. وأحست كمن كشف عنه الغطاء في ليلة شديدة البرد.. لقد كان لها نعم السند والمعين.. وبكته زمنا طويلا، لتتدثر برداء الصبر مجددا وهي تجاهد الفقر والحاجة فلم يكن حال زوجها بأفضل من حال أبيها،وعندما حصل زوجها على قطعة أرض في مكان ناء ويفتقر للخدمات الأساسية في أطراف العاصمة اطلق عليه اسم حي غبوش اجتاحتهما الفرحة.. وشرعا في بناء منزل متواضع وانتقلا للعيش فيه.
الحزن النبيل
بعد أن اشتد عود إخوتها وانتقلت عمتها الأرملة للعيش معهم بعد انتقال صابرة لمنزل زوجها..وبقي إبنها الأكبر في بيت جده مواصلا دراسته يرعاه خاله وجدته ،ولم تحرمه هي إهتمامها وحبها إذ كانت تكثر زيارته في بيت أبيها.. كان معتصم يكبر متخلقا بأنبل الصفات التي جعلته محبوبا وسط رفقائه وأهل الحي وكان لاعب كرة ماهر حتى انه كان هدفا لعدد من أكبر أندية الدوري الممتاز وهو يرتدي الوان فريق وادي النيل.. غير أن الحزن الذي يرفض ان يفارق صابرة كان يتربص بها وهي لا تدري.. وعندما اندلعت أحداث سبتمبر كانت صابرة على موعدها المتجدد مع الصبر فقد نعي إليها في ذلك اليوم المشؤوم إبنها معتصم الذي قتل بلا جريرة برصاصات اخترقت جسده الطاهر ومزقت قلبه البرئ وهو في ميعة صباه.. مات معتصم الذي كانت تنتظر أن يكون سندها وعونها مات دون أن يودعها، مات قبل أن تزفه عريسا وتخضب له يديه بالحناء وربطت على قلبها وتجاوزت محنتها بصبرها المعهود وبدأ لسانها وكأنها تردد”كنت اضاري من الناس وخائفة عليهو من العين” ولكن فقد نفذ القدر..اعتصرت الحزن المؤلم في جوانحها لأنها تدرك ضرورة التماسك ومواصلة رحلة الحياة بكل رهقها.
رحيلٌ مفاجئ
وعكفت تربي أبناءها وتعمل هنا وهناك لتساعد زوجها في مصاريف البيت والمدارس، وتقابل كل من تعرفهم بابتسامة عريضة ونفس مرحة فقد تعودت الألم وتعود عليها حتى لم يعد يبدو على محياها، فعندما تجالسها لا تحس-لله درها- أن هذه الصابرة قد مرت عليها كل تلكم النوائب المتلاحقة،وتمضي بها الحياة بين تفاصيل الفقر ومتابعات المرض وقد كتمت أوجاعها في قلبها العليل لتواصل عطاءها المستمر في تربية أبنائها ومساعدة زوجها وتفقد إخوتها.. ولكنها بطبيعة الحال لم تكن تدري أنها على موعد آخر مع الحزن والصبر.. فقد اختطف الموت زوجها فجأة دون علة وهو يبحث عن رزقه في ذلك الصباح على ظهر الكارو الذي كان وسيلته في تحصيل رزقه.. مات دون أن تودعه كأنما خاف أن يثقل عليها بتحمل لحظات موته المفاجئ.
أربعة أيتام
رحل الزوج مخلفا لها أربعة أيتام لم يرشدوا بعد.. ولم يترك لها من حطام الدنيا إلا تلك الدار المتواضعة في ذلك الحي الفقير.. وخرجت من عدتها وهي تستشعر مسؤوليتها الجسيمة تجاه هؤلاء الصغار.. فربطت على قلبها المثقل بالأحزان وخرجت تبحث عن عمل يكفيها وعيالها شر الحاجة فعملت ساعية في مؤسسة حكومية ولكن العائد لا يسد الرمق ولا يفي بمتطلبات العلاج والمدارس ولا يحميها من نار الغلاء المتزايد.. فتركت هذا العمل وكان أن استقرت مؤخرا عاملة في إحدى المهن الهامشية بالميناء البري تدر لها دخلا متواضعا ولكنها ترضي به بنفس عامرة بالايمان مع تمنيات بان ينصلح حالها.. ومازالت تقسم يومها بين عمل مجهد في الصباح وبين أطفالها في المساء ،متحملة بين هذا وهذا سقما تراجعت معه صحتها، ولكن أنى لها أن ترتاح وهم أبنائها يقض مضجعها ويجبرها على نسيان المرض ومواصلة عطائها مهما كان وضعها الصحي ،وهاهي تمضي كل يوم إلى عملها وهي لا تدري هل تبقى لها شئ من اسمها أم أنها أخذت نصيبها منه كافيا.
جمر الصبر
وصابرة القابضة على جمر الصبر في منتصف العقد الرابع ورغم فقدانها بعامل الرحيل عن الدنيا والدها حماد ووالدتها وشقيقها عوض الله وابنها الشاب معتصم وزوجها وثلاثة من أبنائها في أعمار صغيرة، إلا أنها ما تزال تبتسم ليس سخرية من الأقدار فهي تتسلح بالإيمان ولكن لأنها تعتقد أن الحياة ورغم ضنكها ورهقها وأحزانها تحتاج للابتسامة والتفاؤل. ونحن نودعها بعد أن قضينا سحابة نهار يومنا معها لم تنسَ أن تشكر كل من وقف بجانبها في مختلف ظروفها، السعيدة والحزينة، وخصت شقيقها أحمد (أبو صابر) وعمتها حامدة والأمين العام لديوان الزكاة الاتحادي الذي تبرع لها بخمسة آلاف جنيه وشقيقتها سعاد بالإضافة إلى أسرتها الكبيرة.. وتؤكد أنها رغم ظروفها لن تستسلم لقسوة الأيام وتثق في أن الله معها حتى تتمكن من تزويج بناتها الثلاث.. قالت لنا وهي تلوح لنا مودعة: (الدنيا دار ابتلاء ويوجد آخرون ظروفهم أسوأ مني لذا الحمد لله كثيرا).
من يعينها
إذن هي صابرة وتلك قصتها.. والسؤال من من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، يسعى لكسب الثواب ويعمل على إعانتها في توفير مشروع يساعدها دخله في تربية صغار ذهب والدهم عن الفانية فتركهم أيتاما.. فقراء بحسابات المال.. أغنياء بقيمهم وحسن ثقتهم في رب العباد.
مزاهر رمضان



