اردول يكتب: سيناريو نهاية الحرب في السودان

اردول يكتب: سيناريو نهاية الحرب في السودان
ورقة سياسات
إعداد: مبارك أردول
⸻
مقدمة
أكتب هذه الورقة بعيدًا عن موقفي السياسي، وبصفتي مختصًا في الاقتصاد والتعدين، حتى يتسنى للقارئ النظر بموضوعية إلى العلاقة بين الاقتصاد السياسي ومآلات الحرب في السودان.
في لحظة مفصلية من التاريخ الجيوسياسي والاقتصادي العالمي، يلوح في الأفق تحوّل استراتيجي كبير؛ إذ يتراجع نهج الطاقة التقليدية، ويبرز «اقتصاد المستقبل» المعتمد بشكل متزايد على المعادن النادرة. الدول التي تمتلك هذه المعادن تعيد اليوم رسم مواقعها على خريطة النفوذ العالمي.
في هذا الإطار، تبرز أرض السودان كمحور استراتيجي — ليس فقط بوصفها ساحة صراع، بل كمورد حيوي يمكن أن يكون شريكًا فاعلًا أو رأس حربة في الاقتصاد العالمي الجديد.
وتتلاقى في هذا المشهد ثلاثة محاور مترابطة:
1. ارتفاع أسعار الذهب وشحّ الإمدادات العالمية.
2. تصاعد التضخم في الولايات المتحدة الأميركية.
3. تنافس القوى الكبرى على المعادن النادرة.
4. المسار السياسي لإنهاء الحرب في السودان عبر “الآلية الرباعية” (The Quad) والتحوّل نحو الشراكة الاقتصادية بدلاً من الإغاثة.
تحاول هذه الورقة ربط هذه المحاور معًا في إطار تحليلٍ للاقتصاد السياسي، بعيدًا عن الانحيازات الأيديولوجية والسياسية المباشرة.
⸻
- خلفية اقتصادية عالمية: التضخم، الذهب، وفك الارتباط بين الدولار والبترول
شهد الاقتصاد العالمي خلال السنوات الأخيرة تقلبات حادة تمثلت في ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصادات الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وهو ما انعكس في ازدياد الطلب على الملاذات الآمنة كالذهب الذي ارتفعت أسعاره بصورة غير مسبوقة.
وفي الوقت نفسه، تتزايد الاضطرابات في سلاسل الإمداد العالمية للمعادن مع احتدام التنافس بين القوى الكبرى على السيطرة على مصادر العناصر الأرضية النادرة.
فك الارتباط التدريجي بين الدولار والبترول
من أبرز التحولات الجارية في الاقتصاد الدولي ما يمكن وصفه بـ“فك الارتباط التدريجي بين الدولار والنفط”، أو تراجع هيمنة “البترودولار” التي شكّلت أساس النفوذ المالي الأميركي لعقود طويلة.
فمع التحول العالمي نحو مصادر الطاقة البديلة المعتمدة على المعادن (كالليثيوم، الكوبالت، النيكل، واليورانيوم والعناصر الأرضية النادرة)، يتراجع تدريجيًا الطلب العالمي على النفط، مما يضعف ارتباطه التاريخي بالدولار الأميركي.
وقد بدأت دول كبرى — مثل الصين وروسيا والهند ودول “بريكس+” — في تسعير بعض الصفقات التجارية بالعملات المحلية أو بالذهب، في خطوة تعبّر عن بداية تحوّل عالمي نحو نظام نقدي جديد أقل تبعية للدولار.
هذا الواقع يهدد بشكل مباشر ريادة الدولار الأميركي، ويمنح الدول الغنية بالمعادن، ومن بينها السودان، فرصة تاريخية لتصبح جزءًا من النظام الاقتصادي الجديد القائم على الطاقة المعدنية بدلًا من الطاقة النفطية.
⸻
- السودان كمورد استراتيجي: ثروات مُهمّشة في ظل الحرب
يتمتع السودان بترسانة ضخمة من الموارد المعدنية والطبيعية، إذ يقع ضمن نطاق الدرع النوبي–العربي الجيولوجي الغني بالذهب والحديد والكروم والمنغنيز والعناصر الأرضية النادرة مثل الليثيوم والكوبالت والنحاس.
ويُعد السودان من أكبر الدول الإفريقية إنتاجًا للذهب، إضافة إلى امتلاكه احتياطيات معتبرة من خام الحديد والكروم والفوسفات والمانغنيز والمعادن الاستراتيجية الأخرى التي تشكل اليوم العمود الفقري لصناعات الطاقة النظيفة وأشباه الموصلات والتقنيات المتقدمة.
لكن الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني أدت إلى تعطيل الاستثمارات الرسمية في القطاع، وتحويل النشاط إلى التعدين الأهلي غير المنظم، مما حرم الدولة من إدارة فاعلة للعوائد وأفقد الاقتصاد فرصة حقيقية للتنمية.
آثار الحرب على الاقتصاد السوداني وسلاسل التوريد العالمية للمعادن
أثّرت الحرب بشكل مباشر في بنية الاقتصاد السوداني، حيث تراجعت الإيرادات العامة، وانهارت سلاسل الإنتاج والنقل والتجارة في معظم الولايات المنتجة للمعادن.
انخفضت حركة الصادرات الرسمية للذهب والمعادن الأخرى بنسبة كبيرة، ما أدى إلى فقدان السودان لموارده من العملات الأجنبية، وتفاقم عجز الميزان التجاري، وانهيار قيمة الجنيه السوداني.
لكن الأثر لم يقتصر على الداخل، بل امتد إلى الأسواق العالمية للمعادن النادرة.
فمع تزايد الحاجة العالمية إلى الحديد والكوبالت والليثيوم والنحاس — وهي معادن تتوافر في السودان باحتياطيات معتبرة — أدت الحرب إلى خلق ثغرة في مستقبل سلاسل التوريد الدولية، ودفعت الشركات الكبرى إلى البحث عن بدائل في دول أخرى أقل كفاءة جيولوجيًا وأكثر كلفة إنتاجية.
ومن ثمّ، أصبح السودان — رغم غيابه الفعلي عن الإنتاج — أحد العوامل غير المباشرة في ارتفاع أسعار المعادن الاستراتيجية عالميًا بعد خروج اغلب شركات الاستكشاف عن العمل.
الحرب السودانية لم تعد أزمة محلية، بل باتت مؤثرًا على التوازن العالمي لسوق الطاقة والمعادن، وهو ما يفسّر ازدياد اهتمام القوى الكبرى بإيجاد حل سياسي عاجل يضمن استقرار البلاد وعودة نشاط التعدين والصادرات.
⸻
- الجيوبوليتك والمعادن: تنافس القوى وتبعيات السودان
تهيمن الصين اليوم على الجزء الأكبر من عمليات المعالجة والتكرير للعناصر الأرضية النادرة، مما يمنحها موقعًا استراتيجيًا متقدمًا في سلاسل إمداد التكنولوجيا والطاقة والتسلح.
وفي المقابل، تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تنويع مصادر هذه المعادن وتقليل الاعتماد على الصين، وهو ما يفتح المجال أمام دول مثل السودان لتصبح موردًا بديلًا وموقعًا استراتيجيًا ضمن هذه المعادلة.
حرب ترامب الاقتصادية وإعادة تشكّل التحالفات العالمية
تشهد المرحلة الراهنة تصاعدًا واضحًا في الحرب الاقتصادية بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والصين، والتي تجاوزت نطاق الرسوم التجارية لتتحول إلى صراعٍ استراتيجي على الموارد الحيوية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي الجديد.
إدارة ترامب تسعى اليوم إلى اصطفاف دولي جديد يعيد تشكيل سلاسل الإمداد بعيدًا عن الهيمنة الصينية، من خلال بناء شراكات مع دول غنية بالمعادن النادرة مثل السودان، والكونغو، وبوليفيا، وأستراليا.
ويُنظر إلى هذا التوجه بوصفه محاولة لتأسيس تحالف اقتصادي شبيه بحلف الناتو التقليدي، لكنه موجه نحو حماية المصالح الأميركية في ميدان الموارد والتكنولوجيا — أي “ناتو اقتصادي” يهدف إلى تأمين المعادن الاستراتيجية وتحييد النفوذ الصيني في الأسواق العالمية.
هذا التحول يمنح السودان موقعًا محوريًا محتملًا، فالدولة التي تملك احتياطيات كبيرة من الذهب، والحديد، والنحاس، والكروم، والعناصر الأرضية النادرة يمكن أن تصبح شريكًا أساسيًا في هذه الاصطفافات الاقتصادية الجديدة، إذا أحسنت إدارة مواردها وحققت استقرارها السياسي.
أما الولايات المتحدة فتتبنّى في هذا الإطار نهجًا جديدًا يقوم على الشراكة الاقتصادية بدلاً من الإغاثة؛ أي دعم البلدان الغنية بالموارد لتصبح منتجة ومصدّرة ضمن سلاسل القيمة العالمية بدل الاكتفاء بتلقي المساعدات. وهي كدولة تأخذ دورها الريادي في افساح المجال ورصف الطريق لقطاعها الخاص للعمل .
ومع موقع السودان الجيوسياسي المطل على البحر الأحمر وامتداده نحو القرن الإفريقي والعمق العربي، فإنه يُعد نقطة التقاء مثالية بين إفريقيا والعالمين العربي والآسيوي، ما يجعله فاعلًا طبيعيًا في لعبة الجيوبولتيك الجديدة القائمة على المعادن والطاقة.
⸻
- الآلية الرباعية (The Quad) وإنهاء الحرب في السودان: من الحل الأمني إلى الاقتصاد السياسي
في سبتمبر 2025، أعلنت الولايات المتحدة، والسعودية، والإمارات، ومصر — ضمن إطار ما يُعرف بـ“الآلية الرباعية” — عن خارطة طريق تتضمن هدنة إنسانية مؤقتة، يعقبها وقف دائم لإطلاق النار، ثم فترة انتقال سياسي تمهّد لتأسيس حكومة مدنية.
لكن نجاح هذه المبادرة لا يتوقف على الجوانب الأمنية والسياسية فحسب، بل يعتمد على إدماج البعد الاقتصادي في عملية السلام. فالحرب لا تنتهي حقًا إلا حين تُستبدل اقتصاديات العنف باقتصاديات الإنتاج، وتتحول الثروات المعدنية إلى أدواتٍ للتنمية لا الوقود الذي يُشعل الصراع.
الاستقرار السياسي ومحاربة الإرهاب كقضية دولية
لم يعد الاستقرار السياسي في السودان شأنًا داخليًا بحتًا.
ففي عالمٍ تتداخل فيه المصالح الأمنية والاقتصادية، أصبحت محاربة الإرهاب وتأمين الممرات الاستراتيجية وحماية الاستثمارات في الموارد الطبيعية قضايا ذات أبعاد إقليمية ودولية.
ومن ثمّ، فإن تحقيق الاستقرار في السودان يمثل مصلحة جماعية تتقاطع فيها إرادة المجتمع الدولي مع تطلعات الشعب السوداني، لأن استمرار الفوضى أو تمدد الجماعات المتطرفة سيؤثر على أمن البحر الأحمر، وتدفق التجارة العالمية، واستقرار أسواق الطاقة والمعادن في المنطقة بأسرها.
تحويل مسار السلام من مسارٍ أمني إلى مسارٍ اقتصادي–إنتاجي يُمكن أن يكون مدخلًا لبناء السودان الجديد القائم على الشراكة والموارد لا على المحاصصة والسلطة.
⸻
- توصيات اقتصادية–سياسية للخروج من النفق:
- إصلاح الإطار القانوني لقطاع التعدين: ترسيخ الشفافية، وتنظيم الملكية، وضمان التوزيع العادل للعوائد بين الدولة والمجتمعات المحلية.
- تنمية قدرات المعالجة المحلية: الانتقال من تصدير الخام إلى التصنيع والتجميع داخل السودان لزيادة القيمة المضافة.
- شراكات دولية متوازنة: الانفتاح على القوى العالمية في إطار متعدد الأطراف يوازن المصالح ويحافظ على السيادة الوطنية.
- ربط السلام بالقدرة الإنتاجية: فالاستقرار لا يُقاس بتوقّف الحرب فقط، بل بقدرة الاقتصاد على خلق فرصٍ حقيقيةٍ ومناخٍ استثماري مستدام.
- تخصيص عائدات التعدين للتنمية: بتوجيه الإيرادات إلى مشروعات البنية التحتية والتعليم والصحة، لا إلى تمويل الصراعات أو المصالح السياسية الضيقة.
⸻
خاتمة
يقف السودان اليوم على مفترق طرق: فإما أن يظلّ ساحة نزاع تُستنزف فيها الموارد والأرواح، أو أن يتحوّل إلى مركزٍ فاعل في اقتصاد المستقبل القائم على المعادن النادرة والطاقة النظيفة.
إن إنهاء الحرب لا يجب أن يكون هدفًا سياسيًا فحسب، بل استراتيجية اقتصادية وطنية تُعيد للسودان دوره في الاقتصاد العالمي.
ومع تراجع هيمنة البترودولار وصعود “اقتصاد المعادن”، تتاح فرصة تاريخية للسودان لأن يصبح جزءًا من النظام الاقتصادي العالمي الجديد.
لقد شكّل النفط والغاز لعقود طويلة خريطة التحالفات الدولية الكبرى، ورُسمت على أساسهما مصالح القوى العظمى وصراعاتها. أما اليوم، ومع التحول نحو الطاقة النظيفة، فإن المعادن النادرة تتقدم لتحتل الموقع نفسه الذي كان للبترول، لتصبح المحرك الجديد للتحالفات الجيوسياسية والاقتصادية القادمة.
فإذا نجحت الآلية الرباعية أو غيرها في تحويل هذا المسار من سؤال “من يقرّر مصيرنا؟” إلى “نحن من نقرّر مصيرنا”، فسيكون السودان قد خطا أول خطوة حقيقية نحو سلامٍ إنتاجيٍّ مستدامٍ يعيد بناء الدولة على أساس الموارد لا النزاعات.
بورتسودان
١٩ اكتوبر ٢٠٢٥م



