محمد أزهري
سودافاكس – وكيل النيابة أحمد النور الحلا أخبرني يومها أنه سيحقق مع الرئيس السابق “البشير”، فعلي الحضور إلى مقر نيابة الخرطوم شمال. حضرت في التوقيت المناسب، و التزمت إحدى الزوايا غير المرئية. دخل “البشير” بزي قومي أنيق، عمامته في ذات اللفة القديمة، تسبقه هيبة الرئيس.
لم يفسدها إلا تلك التهمة التي تُتلى قبل اسمه، واختلاف حراساته من شخصية تحميه إلى شرطية تحرس متهماً خوفاً من الهرب أو التهريب.
سلّم على الحضور مبتسماً، ثم صعد إلى الطابق الأول حيث مكتب التحقيق، هناك ينتظره الحلا.
انتظرت زهاء الساعة لأحصل على تصريح خاص من وكيل النيابة، كما وعدني، لكن البشير أحبط المحقق بقولته الشهيرة (لن أدلي بأقوالي لأن النائب العام هو الحكم والجلاد)، ووقتها كان النائب العام (شاكياً) أي أحد الذين دونوا البلاغ قبل أن يُعين نائباً عاماً لجمهورية السودان. وقبل أن يغادر، طلب كوب قهوة احتساه بهدوء ثم عاد إلى محبسه في كوبر.
عاد الحلا إلى مكتبه منتشياً كأنه قابل البشير وهو في سدة الحكم وليس البشير المتهم بتقويض النظام الدستوري.
مشهد التحقيق يتكرر، بسيناريو مختلف. ظهر وكيل نيابة الجنجويد “مولاهم” الحلا كومبارس لمسرحية الدم المسفوح، الدم الذي روى أرض الفاشر حتى غير لونها تماماً للأحمر. مجازر وفظائع ضد المدنيين وثقتها صور الأقمار الصناعية، وحللها مختبر البحوث الإنسانية في جامعة ييل الأمريكية.
مسرحية خبيثة، وسيئة الإخراج بطلها (أبو لولو)، القاتل الذي وثق جرائمه بنفسه، وبثها بنفسه، ويقر على نفسه بأنه قتل (2000) شخصاً في واحدة من أغرب الاعترافات في عالم الجريمة، وأكثرها وحشية على الإطلاق.
لأول مرة في تاريخ التحقيقات الجنائية حول العالم نرى قاتلاً يرفع عنا حرج الوصف بالمجرم بدلاً المتهم، ولأول مرة نرى مجرماً يضعوا على يديه الأغلال لأغراض التصوير في مكتب التحقيق ويحرروه بعدها ليمارس نشاطه الإجرامي ضد المدنيين كما ظهر القاتل أبو لولو يوم سقوط الطائرة حراً وهو موقوف على ذمة التحقيق، يا له من عبث حتى في التمثيل.
لأول مرة في تاريخ العدالة الجنائية نرى مجرماً يورط نفسه بتوفير كافة الأدلة المادية ضده لكن في نفس الوقت يسعى وكيل النيابة للعب بدماء الأبرياء لإخراج قرار سياسي بعد تمثيلية الدم المسفوح بالتحقيق الصوري مع القاتل الذي وثق لنفسه كل شيء، ولم يترك للعدالة أن تتيح له وصف متهماً في أقل الخيارات الجنائية.
مثلما قال البشير للحلا أنتم الحكم والجلاد، نحن أيضاً نقولها اليوم, أمامكم قاتل لا يحتاج إلى تحقيق لكنكم الحكم والجلاد والقاتل جميعكم ضد المقتول.
الحلا الذي كان رئيساً لنادي النيابة العامة، وتولى التحقيق في كبريات القضايا الجنائية والمالية والسياسية ها هو اليوم يُطلي جدران تاريخه العدلي بدماء أبرياء الفاشر الذين أذهقت أرواحهم على يد بطل تمثيلية الدم المسفوح.
الحلا كان صديق شخصي والآن صديق على هذه الصفحة، هذا منا التاريخ الذي لا يرحم ولا يعود، والله من اسمائه (العدل) ولك أن تتخيل من يخون الله في اسمه العظيم.
