كاتب مصري: بيت الداء فى السودان

بيت الداء فى السودان
د. محمد حسين أبوالحسن

الغضب والقنوط نهران جوفيان يجريان فى تربة السودان، وكلما التقيا تتفجر الحمم: تُنزف دماء، وتتبدد طاقات، وتضيع ثروات؛ فى هذا البلد إحصاء المشكلات وحده لا يكفى لفهمها؛ بل تحتاج إلى إطار نظرى، يردها إلى جذورها ثم يتابع تطورها إلى اللحظة الحاضرة.

تضيع الأوطان؛ عندما ينطفئ مصباح العقل، وتغلق الأبواب أمام نبض الجماهير؛ فتشتعل نار الجنون وتخرج الأشباح من شقوق الخرائط، ساعتها لا الاستغاثات تُلبى، ولا الدموع تنفع، ولا المراثى تجدى، وهذا ما حدث فى السودان منذ الاستقلال حتى اليوم، صحيح أن الأصابع الخارجية كان لها دور كبير فى وصول البلاد إلى المشهد الراهن، لكن الدور الأكبر يرجع إلى عوامل داخلية أبعد أثرا وأشد خطرا.

فى كتابه «الرؤية السودانية: إنتاج الفشل.. لماذا نحن هنا؟» يحاول الكاتب السودانى عمرو عباس تشريح الأزمة الهيكلية فى بلاده، باحثا عن البنى الداخلية المسئولة عن «إنتاج الفشل» المزمن وتكريسه؛ وهو يرى أن هذا الفشل ليس نتاجا لعوامل خارجية فحسب، بل محصلة لنظام متكامل من الممارسات والعلاقات والهياكل الاجتماعية-السياسية-الاقتصادية التى تعيد إنتاج التخلف والصراعات، وفى مقدمة تللك البنى «هشاشة الدولة»، يوضح عباس أن طبيعة الدولة السودانية ما بعد الاستقلال لم تتطور إلى دولة مواطنة مؤسسية، بل بقيت دولة «زمرة» أو «نخبة» تسيطر على موارد البلاد وتستبعد الآخرين؛ ما أدى إلى صراع مرير على السلطة والثروة، ليس كمسألة سياسية فحسب، بل كمسألة وجودية للجماعات المتنافسة؛ ما قاد إلى غياب التوافق على الهوية الوطنية (عربية-إفريقية، إسلامية-علمانية)، وبالتالى استمرار الحروب. العامل الثانى هو الاقتصاد الريعى وثقافة الريع، فالاقتصاد السودانى تابع ريعى طفيلى، يخدم النخبة الحاكمة على حساب التنمية الشاملة، يعتمد على تصدير سلع أولية، مع ضعف القطاعات الإنتاجية وتكريس ثقافة الريع «الكسب بلا جهد»؛ ما شجع الفساد والمحسوبية، بالإضافة إلى أن سياسات التحرير الاقتصادى غير المدروس، دفعت بأعداد هائلة من السكان نحو الفقر والهجرة إلى المدن والمناطق الطرفية؛ فازدادت الضغوط الاجتماعية والصراعات على الأرض والموارد.

عامل آخر لا يقل أهمية يتمثل فى توظيف الهويات الإثنية والثقافية كأدوات فى الصراع السياسى والاقتصادى؛ فصار التنوع الهوياتى والثقافى خطوط تماس للصراع والعنف، مدعومة بخطاب إقصائى وسياسات تمييزية، من قبل المركز النيلى تجاه الأطراف، بينما فشلت النخب الحاكمة المتعاقبة، باختلاف انتماءاتها أو شعاراتها (قومية، إسلامية، ديمقراطية)، فى بناء مشروع وطنى جامع، كذلك عجز المثقفون عن طرح حلول عملية وتنموية، أو التأثير فى مسار الأحداث؛ كل ذلك أفضى إلى بنية دولة بالسودان مكروهة فى حد ذاتها، من جانب طيف واسع من أبنائها.

ويخلص عمرو عباس إلى أن السودان يعانى «أزمة نظام» لا مجرد أزمة حكام، نظام قائم على اقتصاد ريعى، وهياكل دولة هشة، وعلاقات اجتماعية مشحونة بالصراع، وثقافة سياسية إقصائية، تنتج حالة التدهور والصراع، وتذبح كل الأبقار المقدسة على مذبح الكراهية، وتعيد إنتاج الفشل والحروب.

بيد أن الكاتب السودانى الدكتور الهادى عبدالله أبوضفائر، يوسع زاوية الرؤية تجاه الأزمات الهيكلية فى المشهد؛ إذ يؤكد أن السودان لم يكن يوما أرضا قاحلة فى خريطة التحول السياسي؛ تعاقبت عليه حكومات ديمقراطية وديكتاتورية وثورات شعبية وتحولات انتقالية، لكن المفارقة المؤلمة أن أيا من هذه التغيرات لم ينجح فى بناء دولة مستقرة؛ فى إعادة لإنتاج الفشل نفسه بأدوات مختلفة؛ فالأزمة ليست فى السياسة وحدها، ولا فى (الحكام) وحدهم، بل فى طبيعة المجتمع نفسه، بمعنى أن جوهر الأزمة ليس فى طرائق الحكم فقط، بل فى ماهية المجتمع بالأساس، فى أبنيته الأخلاقية والمعرفية، فى وعيه بذاته وبمصيره. إن المجتمع السودانى رغم ثرائه وتنوعه، يظل هشّا بلا أرضية صلبة، بلا عقد اجتماعى يُجمعه، بلا رؤية جامعة للدولة، وبلا تعريف مشترك لهويته التى تتفكك كلما حاولنا الإمساك بها؛ ولهذا كلما جاءت نخبة إلى الحكم- مهما تكن خلفيتها- اصطدمت بجدار صلب من التشظى المجتمعى والتعقيد الثقافى، دوما يجرى الحديث عن الديمقراطية، والعسكريين والمدنيين، والمركز والهامش، لكنها نقاشات تفترض وجود مجتمع مستقر، بينما نحن فى الواقع أمام بنية اجتماعية مهزوزة، هوية مبعثرة ودولة غائبة، القبيلة فيها ليست رابطة تجمع الناس على المودة، بل صارت سلطة ومؤسسة، والطائفية لم تعد انتماء روحانيا فقط، بل كيان سياسى يُرسم به المصير. أما الانتسابات المناطقية، فصارت بوابة للمظلومية والابتزاز وميدانا لصراع النفوذ، بالإضافة إلى التمييز اللغوى والثقافى الذى يزرع فى البعض شعورا بالدونية، الأسوأ أن العنف بات اللغة الوحيدة التى يفهمها السودانيون فى حسم خلافاتهم، مع توارى ثقافة الحوار والتفاهم.

هكذا يتبدى أن العوامل الداخلية – دون إغفال الخارجية – هى التى قادت إلى الأزمة المزمنة فى السودان منذ الاستقلال حتى اليوم، وبالتالى يتوجب على السودانيين أن يعلموا أن الحلول الترقيعية محكوم عليها بالفشل ما لم تعالج الأسباب الحقيقية للمشكلات. ولأن السياسة تنطوى على تضارب المصالح والرؤى والانتماءات ينبغى على النخب المختلفة أن ينصتوا باهتمام لصوت الناس والمجتمع؛ فالخروج من الدائرة المفرغة، يتطلب إعادة تأسيس العقد الاجتماعى، على أسس المواطنة، وبناء دولة المؤسسات، والتحول من الاقتصاد الريعى إلى الإنتاجى، وإجراء مصالحة حقيقية مع الهوية المتعددة للسودان، فهل من مجيب؟!.

M_ha7@hotmail.com

Exit mobile version