91 دولار فقط .. قيمة الدية في السودان ..أم قيمة خروف

ثلاثمائة وثلاثون الفاً
قيمة الدية أم قيمة خروف
منذ أن أُدرِج نظام الدية في النظام القانوني السوداني لأول مرة مع صدور قانون العقوبات لسنة 1983، حُدِّدت قيمتها بمائة من الإبل، وتُرك تحديد مقابلها النقدي لرئيس القضاء بالتشاور مع الجهات المختصة. وهذا ما أخذ به القانون الجنائي لسنة 1991، حيث نصّ البند (1) من المادة (42) على أن (الدية مائة من الإبل أو ما يعادل قيمتها من النقود وفق ما يقدره من حين لآخر رئيس القضاء بعد التشاور مع الجهات المختصة)
ظل رئيس القضاء يعمل على تعديل قيمة الدية بين حينٍ وآخر مراعيًا معدلات التضخم وتغيّر الأسعار وانخفاض القيمة الفعلية للسلع، مع أن وتيرة التعديل التي كان يتم بها تعديل قيمة الدية بطيئة للغاية ولا تتناسب مع الهبوط المستمر في القيمة الفعلية للأسعار في السوق. فعلى سبيل المثال صدر المنشور القضائي رقم (3) لسنة 2009 وحدد قيمة الدية بثلاثين ألف جنيه، والدية المغلظة بأربعين ألف جنيه.
وبقي هذا الوضع مستمرًا منذ 2009 حتى 2016، حين لاحظ رئيس القضاء فجأة أن مقدار الدية أصبح مبلغًا تافهًا بسبب تغيّرات السوق وانخفاض قيمة الجنيه السوداني، فأصدر المنشور رقم (4) لسنة 2016 وعدّل بموجبه قيمة الدية لتصبح ثلاثمائة وثلاثين ألف جنيه بدلًا عن ثلاثين ألفًا، والدية المغلظة ثلاثمائة وسبعة وثلاثين ألف جنيه بدلًا عن أربعين ألفًا، مما يدل على وجود تلكؤٍ في الإجراءات وعدم مواكبة التغييرات التي يشهدها السوق إلى أن أصبحت قيمة الدية أقل من عُشر قيمتها الحقيقية.
أسرة صيدلي أنهى حياة زوجته وابنتيه يعرض الدية
كانت المحاكم تستشعر في بعض الأحيان عدم العدالة في الحكم بالدية بقيمة قليلة لا تتناسب مع قيمتها الحقيقية، فتسعى إلى وسائل لتحقيق العدالة وإن خالفت التشريعات المنظمة. فعلى سبيل المثال شهدت حكمًا لأحد القضاة قضى فيه بالدية بناءً على متوسط أسعار الإبل لثلاث سنوات، وعندما رفع الموضوع إلى محكمة الاستئناف أصدرت قرارها بإلغاء الحكم الابتدائي ونبهت ضرورة التزام المحكمة الابتدائية بقيمة الدية المحددة من رئيس القضاء.
في العام 2020 تم تعديل القانون الجنائي، واستُتبِع ذلك تعديل البند (1) من المادة (42) ليصبح (تُحدَّد الدية بموجب قانون). وبناءً على ذلك سقطت صلاحية رئيس القضاء في تعديل قيمة الدية وفقًا لمتغيرات سعر السوق، ولم يعد من المقدور تعديل قيمة الدية إلا باصدار قانون بهذا الخصوص.
بالطبع لم يتم هذا التعديل بناءً على دراسة أو تقدير للظروف العملية في البلاد التي تؤكد أن إصدار قانون بشأن الدية إجراء معقد ويتطلب مؤسسات متابعة وتعمل بسرعة اللازمة، ومن ثمّ فقدت المنظومة القانونية المرونة التي كانت تُمنح لرئيس القضاء لمعالجة القيمة التي تحكم بها المحاكم عند تقدير الدية. ونتيجة لذلك بقيت قيمة الدية على المستوى الذي حدده منشور رئيس القضاء عام 2016، وهو ثلاثمائة وثلاثون ألف جنيه للدية العادية، وثلاثمائة وسبعة وثلاثون ألفًا للدية المغلظة، دون صدور أي قانون بتعديلها منذ ذلك التاريخ.
ربما كان الدافع لدى واضعي مسودة تعديل القانون الجنائي لسحب سلطة رئيس القضاء في تحديد قيمة الدية هو الانشغال بالمبادئ القانونية المتعلقة بفصل السلطات وبأن لّا تكون لرئيس القضاء سلطة تنفيذية أو تشريعية. غير أن تطبيق مثل هذا التفكير دون مراعاة لظروف السودان وأوضاعه الإدارية والسياسية أدى إلى حالة من الجمود نتج عنها ضرر كبير، إذ توقفت قيمة الدية عند مستوى عام 2016 وأصبحت لا تساوي أكثر من ثمن خروف في السوق، وليست قيمة يمكن أن تمثل تعويضًا مدنيًا مناسباً عن فقد روح إنسان.
من الضروري معالجة فقدان المرونة الذي أحدثه تعديل المادة (42) من القانون الجنائي لسنة 1991 وفقًا لتعديلات 2020، وكسر حالة الجمود في تعديل قيمة الدية من خلال وضع آلية أكثر سهولة ومواكبة لتغييرات السوق، ومن ذلك – على سبيل المثال – منح صلاحية تحديد قيمة الدية لوزير العدل أو لمجلس الوزراء بناءً على توصية من وزير العدل بعد التنسيق مع الجهات المختصة، بما يمكن من رفع قيمة الدية بدلاً عن قيمتها الحالية التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مخجلة.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب



