مطار بورتسودان بين الأسطورة والحقيقة: حين تتحوّل الوقائع التشغيلية إلى ملاحم زائفة

مطار بورتسودان بين الأسطورة والحقيقة: حين تتحوّل الوقائع التشغيلية إلى ملاحم زائفة
كتب:إبراهيم عدلان
في الأزمنة التي كانت الآلهة الإغريقية تعتلي قمم الأولمب، لم تكن الأساطير تُنسج من الخيال وحده، بل من وقائع صغيرة تُضخَّم، ومن أحداث عابرة تُحمَّل ما لا تحتمل. كان “فامِس” إله الإشاعة ينفخ في الأخبار حتى تصير وحوشاً، وكان الضجيج يسبق الحقيقة بخطوات. وعلى ذات النهج، شُنّت في الآونة الأخيرة حملة صحفية جائرة على مطار بورتسودان، لا تستند إلى قراءة مهنية بقدر ما تتغذى على التهويل وسوء الفهم.
أسطورة المطار المنهار
رُوِّج أن مطار بورتسودان قد بلغ حد العجز والانهيار، وكأنه صخرة “سيزيف” التي لا تبلغ القمة أبداً. والحقيقة أن المطار، رغم ظروف استثنائية فرضتها الحرب وتحولات الحركة الجوية، ظل يعمل دون انقطاع، وتحمل فجأة أدواراً لم تُخطَّط له في زمن السلم، ليصبح المنفذ الجوي الأهم للبلاد.
حين يُرهَق النظام ثم يُلام
فإذا توقّف سير العفش خِلْسةً، ذاك الذي كان مناطاً به سفريتان في اليوم، فإذا به اليوم يُحمَّل عبء ثمانِ سفريات، شكا البعض، وكأن “أطلس” قد أُنهك بحمل السماء دفعة واحدة. غاب عن هذا العتاب أن الأحمال إذا تضاعفت، فإن احتمالات التوقف المؤقت تتضاعف معها، لا بوصفها فشلاً، بل بوصفها نتيجة طبيعية لدفع أي منظومة إلى أقصى طاقتها.
أسطورة الفوضى وانعدام السلامة
ذهب آخرون إلى تصوير أي تأخير أو ازدحام على أنه دليل فوضى وغياب للسلامة، وهي رواية أقرب إلى مآسي المسرح الإغريقي منها إلى واقع التشغيل. فالمطار يعمل وفق إجراءات تشغيلية معتمدة، وتحت رقابة مهنية من كوادر تعرف أن سلامة الطيران ليست مجالاً للمجاملة أو التجريب.
المولد الاحتياطي… حين يصير الاحتياط تهمة
وماذا لو توقّف مولّد آلياً ليشتغل الآخر تلقائياً، كما صُمِّمت المنظومة تماماً؟
ضجّ أصحاب الحجج، وكأن التحوّل الآلي دليل انهيار، لا شاهد كفاءة. نسوا أن الأنظمة الرشيدة لا تُصمَّم لمنع العطل بالمطلق، بل لاحتوائه دون أن تتوقف العمليات أو ينقطع التيار.
بين التحدي والتهويل
هكذا تُصنع الأساطير الحديثة:
توقّفٌ مؤقت يُقدَّم بوصفه انهياراً،
وتحوّلٌ احتياطي يُصوَّر ككارثة،
وضغطٌ استثنائي يُحاسَب عليه المرفق كأنه يعمل في زمن رخاء لا زمن ضرورة.
إن مطار بورتسودان لم يُمنح ترف التدرّج الطبيعي في الأحمال، بل أُلقيت عليه فجأة مسؤوليات مضاعفة: زيادة كبيرة في عدد الرحلات، تمدد في ساعات التشغيل، وتحول قسري في دوره الوظيفي. وفي مثل هذه الظروف، لا يكون العطل العابر فضيحة، بل نتيجة متوقعة، بل أحياناً ثمن الاستمرار.
السؤال الغائب عمداً
السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس: لماذا حدث العطل؟
بل: كيف استمر التشغيل رغم كل هذه الظروف؟
وكيف أمكن الحفاظ على الحد الأدنى الذي أبقى البلاد متصلة بالعالم، في وقت كان فيه البديل هو الفراغ الكامل والتوقف الشامل؟
فالخيار لم يكن بين الكمال والرداءة، بل بين التشغيل تحت الضغط والانقطاع التام. ومن اختار الأول، اختار الطريق الأصعب، والأكثر كلفة، والأكثر استحقاقاً للإنصاف لا للتشهير.
دعوة للصحافة… من الأسطورة إلى المعاينة
من مطار بورتسودان لا تُرفع رايات الدفاع، بل تُفتح الأبواب. الدعوة صريحة للصحافة المهنية: تعالوا، قفوا على أرض المدرج، ادخلوا غرف العمليات، اسألوا العاملين، واطّلعوا على الأرقام قبل العناوين. فالحقيقة، كـ“أثينا”، لا تخشى الضوء، بل تزدهر به.
خاتمة
سيظل مطار بورتسودان، مهما كثرت حوله الأساطير، حقيقة قائمة لا تهزمها الإشاعة. وبين ضجيج التهويل وصمت الجهد اليومي، يبقى الرهان على صحافة تعرف أن دورها ليس صناعة الملاحم الزائفة، بل إنصاف الوقائع، واحترام السياق، والوقوف إلى جانب الحقيقة… كما هي، لا كما تُراد لها أن تُروى.



